اختفت السياسة من الوطن العربي وفيه، أو تكاد..
اندثرت الأحزاب الوطنية أو القومية أو التقدمية، سواء منها تلك ذات الدور في النضال الوطني من اجل التحرر والتقدم، أو تلك التي كانت تمثل «البورجوازية الوطنية» بمن فيهم أهل «الإقطاع» أو تلك النخب التي حاولت، مطلع القرن الماضي، تقليد الحركة السياسية في الدول التي كانت تستعمر بلادنا في المشرق أو في المغرب، وبالتحديد فرنسا وبريطانيا.
.. وحتى ما تبقى من تلك الأحزاب التي شكلتها النخب الثقافية والاجتماعية منذ مطلع القرن الماضي في مواجهة قوى الاستعمار والاحتلال، والتي كانت ـ بغالبيتها ـ ترفع شعارات سياسية موجهة ضد المستعمر (الجلاء، الجلاء..) طلباً لتحرير البلاد (الوفد في مصر، الكتلة الوطنية وحزب الشعب في سوريا، حزب الاستقلال في العراق الخ..).
سيمضي وقت قبل أن تنشأ أحزاب بالشعار القومي، منادية باستعادة الوحدة الطبيعية التي مزقها الاستعمار (الحزب السوري القومي الاجتماعي بقيادة انطون سعادة منادياً بوحدة الهلال الخصيب، سوريا ولبنان والعراق ومعها قبرص في منتصف الثلاثينيات) أو بالعمل لتوحيد الوطن العربي جميعاً بمشرقه ومغربه (حزب البعث العربي الاشتراكي الذي أطلق الدعوة إليه ميشال عفلق وصلاح البيطار، ثم انضم إليهما أكرم الحوراني وآخرون)… قبل أن تتلاقى نخبة فلسطينية مع بعض الشباب القومي على تأسيس «حركة القوميين العرب»، منادية هي الأخرى بالوحدة العربية باعتبارها الطريق لتحرير فلسطين وبناء الغد الأفضل.
وكان لافتاً دور «المسيحيين» في تأسيس الأحزاب ذات الشعار القومي، وسواء أكان قاصراً على «سوريا الطبيعية» أو يشمل مختلف الأقطار العربية مشرقاً ومغرباً.
لا بد من الإشارة أيضاً إلى الحركة الشيوعية العربية التي أطلت أواخر العشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن الماضي عبر الحزب الشيوعي الذي كان واحداً في لبنان وسوريا.. وقد تمكن من إيصال أمينه العام خالد بكداش إلى المجلس النيابي في دمشق في الانتخابات المفصلية التي شكلت تطوراً نوعياً في العمل السياسي العربي منتصف الخمسينيات، إذ هي حملت مرشحين لحزب البعث إلى هذا المجلس، وعرف الناس «العمل العقائدي» بالشعار الذي يتجاوز حدود القطر (أو الدولة) إلى المناداة بالوحدة العربية.
ولقد تزامن هذا الحراك مع اندفاع مصر في معركة تأكيد إرادتها الوطنية بقرار تأميم قناة السويس، ثم بمواجهة العدوان الثلاثي الذي اشتركت فيه بريطانيا وفرنسا مع العدو الإسرائيلي، بما أهلها ـ تحت قيادة جمال عبد الناصر ـ إلى تسلم الموقع القيادي في حركة النضال العربي.
في هذا المناخ، قبل جمال عبد الناصر محرجاً ومضطراً، مطالبة سوريا بالاندماج مع مصر في دولة واحدة هي «الجمهورية العربية المتحدة»، مشترطاً حل الأحزاب السياسية أو ذوبانها في تنظيم أنشئ على هيئة «جبهة شعبية» باسم «الاتحاد القومي».
ولن تعيش هذه الدولة إلا ثلاث سنوات ونصف السنة لأن، الوعي الشعبي، كان دون مستوى حماية هذا الحلم القومي الجميل (الوحدة)، وهكذا عادت سوريا إلى كيانها «القطري» ليعود الصراع السياسي فيها إلى الدوامة التي كانت فيها، فاتحاً الباب أمام الانقلابات العسكرية التي توالت بوتيرة متسارعة ولم تجد خاتمة لها إلا مع تقدم حافظ الأسد لتولي السلطة كاملة بعدما كان قد «رتب» أوضاع الجيش و«الحزب» بما يناسب مشروعه السياسي الذي عاش به ومعه حتى توفاه الله في العام ألفين، وبعدما تم ترتيب الأوضاع ليتولى نجله المهام القيادية جميعاً الذي كان يتولاها، مع فارق واضح في طبيعة الرجلين.
أما في العراق فقد كان حزب «البعث» الشريك الأضعف في ثورة 1958 التي قادها الجيش بزعامة عبد الكريم قاسم ومعه عبد السلام عارف.. ثم سرعان ما استبعد قاسم عارف واستعان بالشيوعيين في مواجهة البعثيين وحركة القوميين العرب وسائر الناصريين، حتى العام 1963 حين عاد «البعث» إلى السلطة بانقلاب عسكري سرعان ما اعقبه انقلاب ثان فانقلاب ثالث حتى استقر الأمر لصدام حسين (بواجهة نسيبه أحمد حسن البكر) الذي حكم بشعار «وحدة، حرية، اشتراكية» لمدة خمس وثلاثين سنة متصلة، خاض خلالها حروباً عدة، آخرها غزو الكويت، أنهكت «بروسيا العرب» وانتهت بالاحتلال الأميركي للعراق وتدميره في ربيع 2003.
في المقابل فإن حركة القوميين العرب قد شاركت بنسبة أو بأخرى، ولفترات قصيرة، مع «منافسها» الأكبر حزب «البعث»، ثم طاردها وطردها من جنة الحكم في أقطار المشرق، إلى أن نجحت الثورة التي قادتها في جنوب اليمن الذي كان يحكمه مجموعة من السلاطين والشيوخ في ولايات عدة تحت الحماية البريطانية. بعد الانتصار أقامت الحركة التي كان مناضلوها قد اكتشفوا ـ متأخرين ـ الشيوعية، «جمهورية اليمن الديموقراطية» التي لم تكن لتعيش من دون مساعدة أو حماية الاتحاد السوفياتي… خصوصاً وان قياداتها قد تعمدت الابتعاد عن جمهورية اليمن ـ الأم. ولقد انتهى هذا المشروع، فعلياً، مع سقوط الاتحاد السوفياتي، بعدما كلف أكثر من حرب مع «الجمهورية» في صنعاء، وها هي الوحدة التي كلفت كثيرا من الدماء تبدو مهددة اليوم كما اليمن جميعاً.
على الضفة الأخرى كانت القيادات الإسلامية تظهر مخترقة المجال السياسي بدءاً من أواخر العشرينيات (حركة الإخوان في مصر)… وقد تمددت هذه الحركة إلى المشرق، انطلاقاً من فلسطين (وغزه أساساً..) وصولاً إلى سوريا.
ولقد وجدت حركة «الإخوان» مناخاً ملائماً في مصر التي عرف شعبها بالتدين، فنمت وتعاظم وجودها في الريف والصعيد خاصة، وإن ظلت قيادتها مدينية إلى حد كبير. وكان بديهياً بعد ذلك أن تصطدم بالسلطة (الملكية) ثم بالثورة تحت قيادة جمال عبد الناصر، وأن يعرف قادتها وجمهورها الاعتقال لمدد طويلة.
كذلك فإن المشروع الإسرائيلي لفلسطين قد وفر لهذه الحركة مناخاً ملائماً: الإسلام مقابل اليهودية. لكن المسافة بين المشروعين كانت فلكية، فمن دولة يهودية على ارض التوراة إلى المناداة بالخلافة الإسلامية التي تشمل كل البقاع التي وصل إليها الإسلام. وكان طبيعياً أن يظل هذا المشروع وهماً غير قابل للتحقق، وإن وجد من يرعاه ويجمع له الأنصار، من دون أن ينتبه إلى ما أصاب مشروع الخلافة العربية (الشريف حسين) وأصاب الأمة العربية جميعاً تحت غطاء الوهم الذي روجت له بريطانيا (والغرب عموماً) وهي تسعى لوراثة تركة الخلافة العثمانية التي كانت قد انهارت فعلاً ولم يتبق منها حتى تركيا، التي هجرت الإسلام إلى العلمانية الاتاتوركية وهجرت معها اللغة العربية (لغة القرآن) إلى الحرف اللاتيني.
كان طبيعياً أن يتصادم المشروع الإسلامي والمشروع القومي..
ثم حسم الصراع على السلطة، تحت الشعار الحزبي، أمر الحركتين معاً، فتهاوت الحركة القومية بأحزابها، وإن ظلت بعض شعاراتها مرفوعة لتمويه طبيعة الحكم في الأقطار التي وصل إلى السدة فيها عسكريون حزبيون عن طريق الإفادة من الجيش لتحقيق هذا الهدف.
أما المشروع الإسلامي فها هي مصر تدفع ثمنه من دماء أبنائها كما من استقرارها ومن اقتصادها ومن دورها الذي لا بديل منه في منطقتها.
وتبدو تونس مرشحة بدورها لمرحلة من عدم الاستقرار في ظل التنافر القائم بين الدولة المدنية فيها، التي أرسى دعائمها الحبيب بورقيبه وحزبه الدستوري قبل ستين عاماً، وبين مشروع الدولة الإسلامية الذي يموهه أصحابه بالدعوة إلى الائتلاف مع «العلمانيين» تحت قيادتهم.
مؤسف هو الاعتراف بأن تجارب الحكم الحزبي في الوطن العربي قد انتهت بتدمير «الدولة» التي اصطنعها الأجنبي، في الغالب الأعم، وتمزيق وحدة الشعب.
وها هي الأمثلة صارخة: من سوريا إلى العراق إلى اليمن..
وإذا كانت مصر قد وجدت في شعبها ومعه جيشها المنقذ من الحكم الإسلامي فإن كلفة هذا الإنقاذ كانت باهظة جداً.
المؤسف أكثر أن التجارب الحزبية الفاشلة، بل المدمرة، قد أساءت إلى فكرة التنظيم الشعبي كرافعة للنضال من اجل الاستقلال وبناء دولته بقوى الشعب وقدراته.
خصوصاً وان وريث الحكم الحزبي إسلامياً كان أم بعثياً أم قومياً ممركساً لم تكن الأحزاب العلمانية أو الجبهة التي تجمع في أفيائها قوى الشعب الحية المؤهلة والقادرة على بناء دولتها الوطنية العتيدة.
بل هي الفوضى الدموية التي تهدد بتفجير الحرب الأهلية في أكثر من بلد عربي.
وإذا كان من الظلم اتهام الأحزاب عموماً بالمسؤولية عن فشل الأنظمة التي حكمت الشعوب باسمها، فإنه لمن العدل أن تستنتج ما وصلت إليه شعوب العالم من خلاصات أبرزها أن الحكم الفردي ليس هو الطريق.
تنشر بالتزامن مع جريدة «الشروق» المصرية