أكاديمي كبير كتب يعلق معجبا بكتابات سوزان سونتاج وأفكارها ولكنه ختم تعليقه بوصفه لها وهي في الستين من عمرها بأنها كانت قبيحة. إنسان مقزز. أقول هذا رغم احترامي لحقه في أن يقول رأيه بحرية واعترافه بعجزه عن رؤية الجمال أو تقديره.
رسام كبير عملنا معا في مؤسسة واحدة وفي مبنى واحد. التقى إحدى مساعداتي فانبهر بجمال شعرها. راح يرسمه للخواص وللعوام. جعله أيقونته. يختار له، أى لهذا الشعر، في كل رسم وجها مختلفا. كانت الوجوه وإن اختلفت في غالبيتها جميلة أو لعلها بدت لنا هكذا. أذكر رغم طول المدة أننا بسبب هذا الرسام وعشقه للجمال عشنا فترة نرى الجمال في كل شيء نلمسه وكل كلمة نكتبها وكل فكرة تصدر عنا. رحل الرسام وبقيت اللوحات وتعدت صاحبة الشعر الذي ألهم الرسام الستين من عمرها وما زالت جميلة.
***
لا غرابة في أن يختلف رد الفعل. لقد اشتهر الأكاديميون عموما وعبر السنين بأنهم منعدمو إحساس التذوق للجمال. ظلموهم ربما ولكنها سمعة تمكنت حتى رسخت. الأكاديمي الذي لم ير في سونتاج غير القبح هو في الغالب لم يعايش الجمال يوما أو تذوقه. أغلبنا يذكر الأساتذة الغربيين الذين درسونا وعلمونا وفتحوا لنا طاقات من النور والعلم، كانوا في أكثريتهم مهملين في اختيار ما يلبسون، وفوضويين في مكاتبهم ومكتباتهم. بعضهم لا يكترث لسلة مهملات لم تفرغ محتوياتها من أيام أو من أتربة تغطي قصاصات صحف تملأ الرفوف وتحتل مقاعد خصصتها الإدارة للتلاميذ والمساعدين. لا أذكر أنني رأيت لوحة رسم على حائط في مكتب أستاذ لي. استفسرت من أحدهم. سألت لماذا يصر الأكاديمي على امتلاك سيارة غير أنيقة كالفولفو السويدية وعلى إهمال الاهتمام بالجمال. جاءت الإجابة صادمة، الجمال ترف أرستقراطي.
هناك استثناء أذكره جيدا ولا يغادر ذاكرتي، أذكر الغرفة الجميلة التي كانت تحتلها أستاذة تولت الإشراف على بحث كلفت بإعداده. لوحات على الحوائط ومزهريات بزهور حية في الأركان ورائحة عطر منعش في الأرجاء. أكاديمية نعم ولكن امرأة. أما الفنان فمهنته الجمال. الفوضى في مرسمه يراها ونراها جمالا وكلماته يغنيها الناس معه ومن بعده استمتاعا ويتحاضنون على موسيقاها تلذذا. هؤلاء من الفنانين ومتذوقي الفن مطلوبون دائما في أوقات الاستراحة والترفيه. صديقات تجاسرن وطلبن عدم دعوتهن إلى أمسيات للتخفيف من مشاق النهار إذا كان بين الحاضرين أكاديميون.
***
بتحب فيه إيه؟ شايفاه ومش مصدقة. مفيش في جماله اثنين. لم تجتمع امرأتان على الإعجاب برجل. بل ونادرا ما اتفق الفلاسفة على معايير موحدة للجمال. أفلاطون اشترط التناسق والتناسب معيارا للجمال. هما أيضا المعيار الأساس في الهندسة المعمارية الإسلامية. الجمال بذاته المستقلة قائم ولا ينقصه إلا الاعتراف بوجوده، وحبذا لو كررنا الإشادة به. نتمايل مع الموسيقى إذا تناسقت نغماتها، ساعتها نشعر بالجمال يتسرب إلى عروقنا وأعصابنا ينشر التناسق ويعيد إلى داخلنا التناسب الضروري. إدموند بيرك يطرح رأيا آخر. الجمال هنا وليس هناك. الجمال موجود في داخلنا ولا يظهر لنا إلا عندما يتحرك فينا فيؤثر علينا. هكذا يرفض بيرك معيار التناسب والتناسق. أنا بنفسي أحكم وفي لحظة بعينها على شيء أو شخص. أحكم على نعومته أو رقته أو تنوعه أولونه أو أناقته أو رقي تصرفاته، أو كلها معا. يتفق ديفيد هيوم مع بيرك ليقولا إن الجمال هنا في عينيك أنت وليس في الشخص الجالس أمامك أو الشيء المعلق على جدارك. الجمال ليس صفة في شيء أو في شخص. الجمال موجود في الشخص المضيف، كل عقل يستقبل جمالا مختلفا أو لا يستقبل جمالا.
***
هل تتفقون معى في أنهم يخدعوننا بمسابقات الجمال التي ينظمها رفاق دونالد ترامب بل إنهم يزيفون عن عمد إرادتنا ومفاهيم الجمال عند كل منا. يضعون معايير جمال لم نستشر فيها. الطول بالمتر والسنتيمتر والعرض بالبوصة وأجزائها والوزن بالكيلو جرام والأوقية، وامتحانات معلومات عامة وذكاء تستخف بالعقول. وفي النهاية يعلنون فوز ملكة جمال العالم. هل يوجد عاقل يصدق أن مجموع درجات الطول والعرض والذكاء شرط واقعي للحكم على امرأة بحقها في الجلوس على عرش الجمال؟
سئل سقراط عن الجمال. قال إنه يعرف عنه أشياء كثيرة. الجمال نفسه ليس شيئا واحدا. الجمال موجود في المصارعة وسباقات الجري وفي التماثيل. موجود في رجل يجلس وامرأة ترضع. موجود في نظرة عين ولمسة حنان وإيماءة حب. كم من فرصة جمال ضاعت لالتهاء الإنسان بشيء غير الجمال أو بإنسان آخر غير جميل. الإحساس بالجمال يعدي. دعونا لا نقلل من أهمية عمليات تجميل الوجه. المؤكد في عرفي أنا على الأقل هو أن هذه العمليات بل واعتناء الناس بنفسها يجعلهم أجمل في نظرهم هم أنفسهم قبل نظر الآخرين. ساعتها الذوق يصير أنقى وأرق وأجمل.
***
الحياة بين جميل وجميلة في جو جميل لابد وأن يجعل ثالثهما جميلا مثلهما سواء كان هذا الثالث من الأشياء أو من البشر.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق