لم يقدر للعراق أن يعيش “حالة طبيعية”، على امتداد تاريخه الطويل الذي يتباهى أهله بأن التاريخ الإنساني قد بدأ به ومعه وفيه، إلا خلال فترات قصيرة، أما باقي زمانه فقد كان “كربلائياً”، تغطيه الدماء، وتتناوب عليه “العهود” عبر بحار من دماء أبنائه..
يكفي أن نستذكر عهد صدام حسين الذي امتد بين 1968 و2003، وما حفل به من حروب ومغامرات عسكرية، فضلاً عن التصفيات في الداخل التي شملت بعض أبرز قيادات حزب البعث (الحاكم، نظرياً)، من دون أن ننسى الحروب ضد الخارج (الحرب على ايران التي استمرت لسبع سنوات طويلة، ثم حرب اجتياح الكويت التي انتهت بتدمير العراق، فضلاً عن الحروب المتقطعة ضد أكراد العراق مسقطة مسلسل الاتفاقات التي عقدت ثم نقضت كما تشهد مذبحة حلبجة ..)
ولقد انتهى عهد صدام حسين بكارثة وطنية وقومية نتجت عن الاحتلال الأميركي للعراق الذي دمر معالم حضارته، وأسقط دولته، ونهب متاحفه ومكتباته ذات العراقة التاريخية وحل جيشه وتعامل مع شعبه كطوائف ومذاهب وأعراق، زارعاً أسباب الفتنة التي سوف تدمر وحدة شعبه وأساس دولته، وتشيع الفوضى في “أرض السواد” التي كانت الأغنى فصارت ـ بأهلها ـ الأفقر والأشد بؤساً والأعظم تخلفاً ..
الأخطر أن الاحتلال الأميركي قد تعامل مع العراقيين كطوائف ومذاهب وشيع وعناصر مختلفة (عرب سنة وشيعة، كرد وصابئة وأزيديين ومسيحيين ـ أشوريين وكلداناً الخ)
ولقد استفاقت أسباب الفتنة التي كان قد زرعها عهد صدام حسين خاصة، ومن حكم قبله عامة: سلم الإحتلال الأميركي الشيعة مقاليد الحكم، مدغدغاً شعورهم بالظلم والإبعاد عن موقع القرار، مع انهم الأكثرية، ورعى المشروع الكردي الذي كان في منزلة الأحلام بالاستقلال الذاتي ضمن اقليمهم، قبل أن يغريهم تعثر مشروع إعادة بناء الدولة العراقية على قاعدة وطنية برفع شعار الانفصال.. في حين انطوى أهل السنة على مواجعهم بخسارة السلطة المطلقة، ولم يتردد العديد من كبار الضباط والموظفين فيهم من الالتحاق بالمنظمات الإرهابية (“داعش” أساساً وبعض التنظيمات المحلية الطائفية ..)
وهكذا، فما أن هلت تباشير الانتصار على عصابات الإرهاب المسلح بالشعار الإسلامي في العراق، كما في سوريا، حتى غطت الأفق بوادر أزمة خطيرة تهدد المشرق العربي بمزيد من التصدع بل التمزق في كياناته السياسية..
فليس سراً أن هناك أزمة ثقة بين شيعة العراق، الذين أقبلوا على السلطة كالمفجوع، فأفسدوها، وبين السنة الذين كانوا بالأمس حكاماً ومتحكمين دائمين فغدوا الآن في موقع “الأقلية” التي تطالب بنصيبها في السلطة (والثروة)..
ثم أن الأكراد الذين كانوا قد ارتضوا من قبل، الصيغة الاتحادية، يتذرعون الآن بفساد السلطة في بغداد و”انقاص حصتهم فيها”، ليطالبوا بالاستقلال بإقليمهم وتحويله إلى “دولة” موازية للعراق (العربي)..
أما شيعة العراق فمنقسمون، كالعادة.. والصراع بين قادتهم ينذر بمخاطر جدية تكاد تضيع النصر الباهر الذي حققه الجيش العراقي مع التنظيمات الحليفة (الحشد الشعبي وغيره) على عصابات الإرهاب، بعنوان تحرير الموصل، وهي ثانية المدن في العراق بعد بغداد، ثم تحرير تلعفر، والتقدم في اتجاه الحدود العراقية ـ السورية في حين تتقدم القوات السورية (مع حلفائها) من الجهة الأخرى، مما يوحي بقرب نهاية “داعش” وخلافته التي دمرت الكثير من معالم الحضارة والمدنية في كل من العراق وسوريا (وجهات أخرى).
العراق الآن في دائرة الخطر، مرة أخرى ..
فمن الواضح أن رئيس اقليم كردستان مسعود البرازاني يتذرع باليأس من الإصلاح وفشل التجربة الاتحادية، و”استمرار ظلم الأكراد”، للتوجه إلى اعلان استقلال “إقليمه” كدولة ذات سيادة في الخامس والعشرين من أيلول (سبتمبر) الجاري.
أما السلطة المركزية فتعتبر هذا التصرف خروجاً على الوحدة الوطنية وعلى الاتفاقات التي أعطت للإقليم الكردي نوعاً من الاستقلال الذاتي..
كذلك فهي ترى في هذا التصرف لياً لذراع السلطة المركزية التي تعاني كثيراً من الأزمات السياسية والأمنية الناجمة بمعظمها عن المواجهة الطويلة والمكلفة لعصابات “داعش” التي كانت قد تمكنت في السنوات الثلاث الماضية من احتلال أكثر من نصف مساحة العراق… وان الانتصار كان مكلفاً، وقد شغل بغداد والحكومة المركزية عن كل ما عداه.
ولا تنسى السلطة في بغداد أن تشير بأصابع الاتهام بالتقصير بل وبالتواطؤ إلى الحكومات العراقية السابقة بعنوان المالكي، كما انها تستريب بالدور الأميركي (رغم الموقف الرسمي الذي لم يظهر حماسة للانفصال).. كذلك فهي تعترف أن ثمة تشجيعاً تركياً، برغم أن تركيا ستكون أعظم المتضررين، لأن أكرادها سيتحركون مطالبين بحكم ذاتي أو “اقليم” أو “كيان ما”، وكذلك أكراد إيران.
هي مأساة “الشعب” الموزع، تاريخياً، على أربع دول هي: العراق، تركيا، إيران وسوريا.
فالمسألة الكردية ليست طارئة، بل هي قديمة جداً، وقد مرت بأطوار مختلفة، فيها حروب متقطعة وهدنات، وفيها هجمات بالأسلحة الكيماوية أيام صدام حسين، وفيها اتفاقات وتسويات أبرزها تلك التي عقدت بين “العهد الجديد” ومسعود برازاني.
وأذكر للمناسبة، انني التقيت مصطفى البرازاني (أبو مسعود) في “جلالا” بالمنطقة الكردية في شمالي العراق، في منتصف تموز العام 1970، وفي ظل إعلان صدام حسين (السيد النائب والحاكم الفعلي للعراق في ذلك الوقت) عن مشروع الاتحاد الفيدرالي بين بغداد والإقليم الكردي.
وكان البرازاني الأب سعيداً بهذا الإعلان..
كذلك التقيت حينها الزعيم الكردي الآخر جلال الطالباني في مدينة السليمانية، داخل المنطقة الكردية وهي عاصمتها الثانية، وكان أكثر سعادة من البرازاني واعتبر اننا نعيش بداية النهاية لهذه الأزمة، وسنعود إلى العراق الموحد، مع قدر من الحكم الذاتي الذي يحقق لنا بعض مطامحنا.. فنحن عراقيون، وان كنا أكراداً، ولا نريد الانفصال.
***
العرب والأكراد أمام مأساة عراقية جديدة..
إلا اذا تغلبت الحكمة في اللحظة الخيرة، وأمكن الوصول إلى تسوية تحفظ وحدة العراق الجريح وتمنح الأكراد شعورهم بأن لهم “كيانهم” الخاص داخل الدولة العراقية.. وليس خارجها.
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق