قالت: تذكر بالتأكيد لقاءنا الأول. أليس كذلك؟
قال: أذكره طبعاً. مر عليه في مثل هذا اليوم عامان، وكأنه وقع بالأمس.
قالت: وعدتني قبل شهرين أو أكثر أن تجد عنواناً لهذه العلاقة التي تربط كلاً منا إلى الآخر ثم تفسيراً لكونها واستمرارها حالة استثنائية.
قال: نعم وعدت وعجزت عن تنفيذ وعدي. طلبت منك المساعدة فخيال المرأة دائماً أخصب. خيال يتغذى على فضول دائماً يفيض ورغبة في المعرفة لا تهدأ. وكلاهما متوفران عندك.
قالت: أساعدك؟!، لو كان عندي ما أساعد به لفعلت بنفسي وما سألتك تفسيراً. على كل حال أنت تعلم أنني لا أحلم بيوم أتجاسر فيه فأسمح لنفسي بأن أتدخل بالرأي أو بغيره في أمر جل أمره من خصوصياتك.
قال: الأمر جديد على كل منا. تعالي نفككه معا علنا نفهمه مجزأ بعد أن استعصى علينا فهمه مكتملاً وبديعاً ومذهلاً. ابدئي فالبداية بدأت عندك.
قالت: في مثل هذه الأمور تفضل المرأة ألا تعترف بأنها كانت البادئة. ثم إن حكايتنا ليست كالحكايات. لا أنا كنت البادئة ولا أنت.
قال: من يسمع أو يقرأ حوارنا مضطر أن ينضم لنا في سعينا لفهم الأصل والأساس في حكايتنا. تعالي نستعيد معاً وفي حضور ضيوفنا ظروف لقائنا الأول.
قالت: تعجلت فأطلقت عليه صفة اللقاء.
قال: هل لديك صفة أخرى تفضلين أن نطلقها على ما حدث بيننا في ذلك اليوم قبل عامين.
قالت: لا أجد الصفة المناسبة التي يستحقها الفعل الذي صنع هذا الحدث. طلبت منذ قليل أن نفكك الحدث كما حدث واللحظة التي حدث فيها. ها أنا أحاول. من فضلك حاول معي فالارتباك ما زال يداهمني والحرج يفضحن في كل مرة تعرضت لفضول إحدى المنافسات أو عواقب غيرة غاضبة من أحد الخاسرين اليائسين.
• • •
قال: قفزت يا سيدتي فوق اللحظة. لحظة اضطرب فيها المزاج بسبب ارتفاع درجة الحرارة وثقل واجب لم أنفذه وتعذيب ضمير باحث عن متاعب. دفعني القيظ الشديد للاحتماء منه بالجلوس منفرداً في غرفة مكيفة الهواء لا يتسرب إليها صوت ولا يدخلها إنسان ولا تتسع لفكرة تغذي الكتابة ولا لمهمة أخرى تغني عنها.
قالت: لم أعرف عن لحظتك إلا ما كشفت عنه الآن. كانت لك لحظتك وكانت لي لحظتي. كنت مع صديقات وقد ارتدينا لباسات البحر. أتين من بلادهن وأعمالهن وبيوتهن ليحتفلن معي بعيد من أعيادي. النسيم كما رسموه في كتبنا المدرسية كان عليلاً والمرح طاغٍ والصوت عال والضحكات وأغانينا تنشر البهجة والفرحة في شاطئ متخم بالذكريات ومتجدد بالمغامرات.
قال: فتحت دفتر يومياتي. رحت أبحث بملل واضح عن يوم سجلت خلاصة محادثة هاتفية أجريتها مع زميل قديم ضليع في تاريخ ساسة الصف الثاني. أحد هؤلاء كان العثور عليه ضرورة بدونها لن أكمل ما بدأت أكتبه عن مرحلة غير عادية في حياتنا السياسية. وجدت العنوان مسجلاً بكلمات واضحة والهاتف بأرقام كادت تبلى. ترددت ثم أقدمت.
قالت: أمسكت بالهاتف لأرد على متحدث لم تعلن الشاشة عن هويته. كنت ألهث. طلبت من المتحدث بصوت متهدج التعريف بنفسه. جاء صوته بعيداً وبدا متردداً لبرهة عاد بعدها يلح في طلب التحدث مع شخص بعينه. سحبت الهاتف ودخلت معهما إلى الكابينة بعيدا عن مرج الفتيات وأطفالهن. دققت السمع وركزت الانتباه فصاحب الصوت منزعج بتحضر ولحوح في أدب. لفتت انتباهي «بحة» في صوته. بسببها ومن أجلها وجدت نفسي أدعوه لتكرار سؤاله. شعرت برغبة شديدة في أن أحتفظ بهذا الصوت لأطول فترة ممكنة. اعتذرت كذباً عن سوء الإرسال وأنهيت المكالمة لأطلبك يا صاحب البحة من موقع آخر أهدأ أو هذا ما زعمت وأسألك فتجيبني بهذه البحة التي أحببتها.
• • •
قالت: بل أتصل لأسمع من لا يكرر الشكوى والطلب. معك خلال الاتصال تهدأ النفس وتهفو روحي في أرجاء المكان تنقل عطرها إلى الحاضرين. معك أبتعد عن السياسة وأنت عند الأهل والأصحاب رجلها. أسألك عن شأن فيها فتبتسم ابتسامة الواثق، فيها الكفاية وفيها حرص الكبير على صغيره من لسعة نار أو من انحشار فيما يخنق ولا يفيد.
قال: بل أنا من عاش عامين كاد يستغني خلالهما عن ما تنوع من مصادر الأخبار وما تعود عليه منها. صار اتصالنا اليومي، والطارئ معاً، مصدري المعتمد للأخبار عن الاقتصاد وعن عملة لا تستقر على حال وعن تضخم فالت بدون اعتبار لصالح الإنسان وعن مواقع تتاجر منفردة في سلعة نادرة الوجود أحبها وأفضلها على مئات غيرها وعن ملايين البشر تعج بهم عاصمة أحببتها من الصغر وتحبن منذ أول مواجهة بيننا. عن طريقك سمحت لأحوال وحكايات فنانين وفنانات أن تحتل مكاناً معتبراً في فراغات أوقاتي ومساحات الترفيه والتسلية في حياتي. منك عرفت أن لقضاياهن وقضاياهم الإنسانية حقوقاً عندي وغيري من صناع الرأي. من اتصالنا الهاتفي عدت لزيارة مواطني الأصلية في أحياء لم أقف على عتباتها لسنين بل وعقود. عدت أشم رائحة مكان ولدت فيه قبل عشرات السنين وأسمع الضجة الهائلة الصادرة من داخل صفي دكاكين في الشارع لا يتوقف أصحابها وأجرائهم عن ضرب خام النحاس حتى يصير ماعوناً للطبخ أو… للقهوة. هنا في بيت عريق بهذا الشارع زفرت أول زفرتين وشهقت أول شهقتين وأطلقت أول صرختين.
قالت: لا تبالغ فالمستفيد فائدة صافية في الاتصال بيننا كنت أنا. أنا ابنة القصر المدللة المعطل عقلها عن قدرة استيعاب ما تنتجه عقول المصريين من سكان بيوت الطين في ريف مصر وفي مبانٍ آيلة للسقوط في أزقة الإسكندرية وغيرها من مدن مصر العديدة، تدربت في حقل الاتصالات بيننا على الغوص في كل عقل وكل بيت وكل زقاق وحارة. منك تعلمت أن ليس كل الرجال رجلاً واحداً وأن للنساء حرمات أخرى غير ما لقنتني إياه جدتي أو أمي وخالاتي والمراهقات من صاحباتي.
بفضل الاتصال الهاتفي بيننا صرت إنسانا مختلفاً. تعلقت بك كما لم أتعلق بشخص آخر. ثق أنني صرت أخشى على مستقبل هذه العلاقة بيننا من تدخل وتأثير حواس أخرى غير حاسة السمع التي بفضلها نشأت هذه العلاقة، وبفضلها وفي كنفها عشنا عامين، وبفضلها عرفنا سعادة من يحبون بدون شوائب ويشتاقون الواحد للآخر بدون حرج ويتفلسفون كما لم يتفلسف الأقدمون في معنى الحب ومراميه وعن ما أطلقنا عليه أنت وأنا حرية الغوص في أعماقه الآمنة.
حبيب العمر، دعني أصدقك القول. أخاف عليك يا رجل وعلى نفسي من غيرة الحواس الأخرى التي لم يسعدها الحظ لتشاركنا رحلتنا البديعة. أخاف عليها وعلينا من غضبها ومن ضعفنا. أخاف عليها وعلينا من نظرة ومن لمسة ومن حضن.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق