غزة ـ حلمي موسى
الجو في رفح شتوي، والسماء لم تمطر كثيرا ليلة أمس ما قلل من معاناة النازحين في خيم اللجوء. والواقع أن هذا الشتاء وما يحيط به يذّكرني بطفولتي في مخيم الشاطئ، حيث كنا نقضي الليل في نقل أوعية من مكان الى آخر في الغرفة لمنع دلف مياه الامطار من الوصول للأغطية والملابس وتبلّلها.
كما ان الشتاء كان موعدا للعمل رجالا وأطفالا تحت المطر لتعزيز أساسات الغرف خوفا من السيول التي كانت تجرف الرمال من حول حجارتها، وتهدد بهدم الغرف على رؤوس من فيها.
ويذكرني المطر أيضا بالسجالات اليومية مع والدتي التي كانت تستبشر خيرا بهطوله وتقول لنا أنه خير، فنجادلها حول هذا “الخير” المتعب والمؤذي فلا تسكت قبل أن تقول إنه خير لأرضنا، فيزداد احتجاجنا لأنه ليست لنا في مخيم الشاطئ أي أرض ولا نريد أمطارا. فتبدأ أمي بالموعظة الطويلة عن فوائد المطر للأرض وأن لنا أرضا كانت تمنحنا قمحا وشعيرا وكروم عنب وبساتين لوز فضلا عن أرض لزراعة الخضروات. وكانت تشرح أن هذه الأمطار تسقط على أرضنا البعيدة وتثمر فيها وهي بانتظارنا مهما طال الزمن، ونحن سنعود اليها.
كنا نسكت قليلا، ونتحسر ونضطر للنوم او للانشغال بأي شيء آخر. واليوم عندما أتذكر ذلك أقول في نفسي إنه لولا ذلك الإحساس الذي زرعته في نفوسنا تجاه أرض كانت بعيدة عن عيوننا، لكنها مزروعة في قلوبنا، لما توفرت لنا القدرة على تحمل العيش في ذلك المخيم الصعب. كان المخيم الذي نشأت فيه مجرد مزيج من رمال بحر ومياه بحر. كان يمكن ان يكون ريفييرا لمصطافين، ولكن القدر شاء أن يحيله الى مخيم للاجئين من دون أن تحيطه لا أراض زراعية ولا غيرها، باستثناء كثبان رملية سرعان ما تحولّت على مر السنين لتغدو “حي الرمال” الشهير من جهة، و “حي النصر” من جهة أخرى.
تمضي السنون وتحملنا إلى رفح في أواخر العمر تقريبا، حيث يضطر بعضنا للعيش في خيام كثبان رملية مجاورة للبحر، في إعادة مشهد كان قائما قبل أكثر من سبعين عاما.
ثمة من يرى ذلك نهاية المشهد، فيما يراه آخرون “صخرة سيزيف” التي يحملها شعبنا ليصعد بها أعلى التلة، ولكن، قبل وصوله إلى القمة، تسقط الصخرة ليعيد حملها بجهد أكبر. وتكرّر المشهد لكنّه في كل مرة يكون أقوى مما سبقه، سواء من ناحية التوحش الصهيوني أو من ناحية المقاومة الباسلة.
لقد ظن قادتهم أن جيلا منا سوف يموت وجيلا آخر سوف ينسى. وها هي أجيال تموت لكن الشوق الى الأرض والتصميم على التضحية من أجلها تزداد جيلا بعد جيل.
عن الشجاعية مرة أخرى
يكثر المعلقون العسكريون الحديث عن الشجاعية كأنّهم يتحدثون عن الكوابيس. فقد جاءوا هذه المرة بحلم تصفية الحساب مع الشجاعية، وأفرطوا في الحديث عن ذلك. وبدا لهم طوال الأيام الأخيرة أن حديثهم عن تحقيق إنجاز ما بديهي، وأن قواتهم المجللة بـ “أكاليل النصر” قادرة على تقديم الانتقام المطلوب، ليس فقط ثأرا من أحداث 7 أكتوبر، وإنّما أيضا من احداث الماضي.
وقد أفرد الجيش الاسرائيلي للشجاعية الكثير من الاهتمام. وشدّد على أنّه لم يبدأ بها حملته البرية لم يأتِ من باب الصدفة، بالرغم من أن بيوت الشجاعية هي الأقرب لكيبوتس “ناحال عوز” وللحدود. وبرر بعض المعلقين ذلك بقولهم أن الجيش ترك الشجاعية للمرحلة الأخيرة من المعركة في غزة لإيمانه بأنها ” جوزة صلبة” يتعذر كسرها بسهولة.
ولذلك، لجأ جيش العدو مع الشجاعية لأسلوب التدمير عبر الجو، ومن البر بقذائف المدفعية والدبابات. ولم يدّخر وسعا لمحاولة تفكيك العلاقة بين المقاومة وبين حاضنتها من خلال ممارسة حرب نفسية قوية. كما حاول بث الذعر في صفوف المقاومة من خلال استهداف قادة كتيبتي الشجاعية في “كتائب القسام” وعدد من قادة “سرايا القدس”.
إلا أن العدو استغرب استمرار المقاومة في القتال بكفاءة.
ومنذ بدء القتال، عمد الجيش الاسرائيلي إلى نشر أسماء أفراد كتيبتي القسام في الشجاعية وصورهم، معلنا نيته استهدافهم. وكان يحتفي في كل مرة يسقط فيها أي من قادة الكتائب شهيدا ليعلن الجيش أن نهاية قوة حماس في الشجاعية اقتربت.
لكن نتيجة معركة الشجاعية لم تكن مبشرة أو واعدة للجيش الاسرائيلي حتى الان. وتكفي الاشارة الى ما ثبت بأنه كمين محكم لقوة من القسام وسرايا القدس في الشجاعية في الأسبوع العاشر للحرب، وهو الأسبوع السابع للمعركة البرية، ليقضي على قيادة الكتيبة ١٣ في لواء جولاني بأسرها. فقد لقي قائد الكتيبة المقدم تومر غرينبرغ مصرعه في الكمين بالإضافة إلى ثلاثة من قادة سرايا الكتيبة. كما قُتل قائد لواء يفتاح العقيد اسحق بن باسط، وأُصيب في الكمين ١٥ ضابطا وجنديا. وتم الاعلان حتى الان عن مقتل ١٠ منهم وإصابة الباقين بجروح خطرة.
وبعدها تكاثر الحديث عمن جاءوا لاصطياد المقاومين، فوقعوا في الفخ. وتكاثر الحديث أيضا عن الثمن الباهظ الذي تدفعه اسرائيل في المعركة البرية التي لم تحسم برغم مرور عشرة أسابيع.
ويكثر المعلقون من الحديث عن الشجاعية واللعنة التي تلاحق الجيش الاسرائيلي عموما فيها، وليس فقط لواء جولاني.
وقد دفع ذلك قائد عوتسبا، وهي مجموع وحدات تضم فرقا وألوية مختلفة ومتنوعة، إلى مطالبة قيادة الجيش بتغيير خطتها القتالية في غزة وسحب قواتها المقاتلة منها وتركيز الجهد من جديد على القصف الجوي والمدفعي المباشر، واستخدام الجرافات لتسوية الارض في الشجاعية.
والواقع ان هذه المطالبة لا تختلف جوهريا عن مطالبة قادة سياسيين وعسكريين بتسوية كل الأرض في قطاع غزة وتحويلها الى موقف للسيارات.
في كل حال، من المؤكد ان الشجاعية بما شكلته من رعب في نفوس القوات الاسرائيلية المقاتلة، خصوصا لواء جولاني، ستلقي بظلالها ليس على الحرب ونتيجتها فحسب، وإنما على تاريخ الجيش الإسرائيلي برمّته.
الولايات المتحدة وإسرائيل
من المعروف أن العلاقة بين اسرائيل وبين الولايات المتّحدة تطورت بعد حرب 1967 بشكل جوهري، خلافا لما كانت عليه قبلها. ويشهد التاريخ أن رئيسا أميركيا واحدا هو من ضغط في العام ١٩٥٧ من أجل انسحاب إسرائيل من سيناء أثر العدوان الثلاثي. ومن بعدها، لم يحدث أن أفلح أي رئيس أميركي في الضغط جوهريا على إسرائيل سوى في حدود ضيقة.
وفي عهد الرئيس جيرالد فورد، دار الحديث عن ” إعادة تقييم” العلاقات الاسرائيلية الأميركية. وفي نهاية عهد أوباما، سُمح بصدور قرار عن مجلس الامن، كان في غير مصلحة اسرائيل. ولكن ليس أكثر من ذلك.
وقد تحدّى نتنياهو أوباما في عقر داره، وراهن على الجمهوريين، إلّا أن ذلك لم يفسد العلاقة بينه وبين بايدن، بالرغم من أن الأخير كان نائب الرئيس اوباما.
وحاليا، يمكن القول أن بايدن احتضن نتنياهو بشكل لم يسبق له مثيل، كما دعم اسرائيل بشكل لم يسبق له مثيل، وجند العالم الغربي كله لمساندة اسرائيل في حربها الإجرامية ضد الفلسطينيين. إلا أن ذلك كلّه لم يؤهل بايدن لتقييد حركة إسرائيل، ولو على اضيق نطاق، لضمان التزامها بالقانون الدولي. بل إنه كان، في كل مرة تنتهك اسرائيل القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وقوانين الحرب، يقف سدا منيعا ضد كل مسعى لإدانة إسرائيل. كما انه وفّر المنابر لنشر الأكاذيب الإسرائيلية في أرجاء العالم.
إلّا أن ذلك كلّه لم يمنح الولايات المتحدة شرعية ممارسة الضغط على إسرائيل، بل إنها خضعت لمطالب الاحتلال، سواء في التمويل او التسليح. وأعلنت إدارة بايدن عن رغبتها في منح دعم بقيمة 14،5 مليار دولار لإسرائيل في حربها، ووفرت لها جسرا جويا فريدا طوال أيام الحرب زاد عن مئتي طائرة، فضلا عن عشرات السفن الضخمة التي حملت السلاح لها والذخائر.
وأوحت واشنطن للعالم بأنها تحتضن إسرائيل لكي تتمكن من توفير القدرة على تقييدها. لكن سلوك إسرائيل كان في واد، ورغبات واشنطن- إن كانت صادقة- كانت في واد آخر. وقامت إسرائيل علنا بفعل كل ما كانت تريده، من دون أن تولي المطالب الاميركية أي اعتبار، سوى ربما بعض الضرائب الكلامية.
ومع ذلك تواصل الولايات ادعاء الاختلاف مع اسرائيل حول ما يعرف “باليوم التالي”.
وعناصر الاختلاف الجوهرية بينهما تتصل بمستقبل السلطة الفلسطينية. فالولايات المتحدة تريد حل الدولتين بعد إصلاح السلطة، أمّا اسرائيل فترفض هذا الحل من أساسه.
وكلام بايدن الأخير الذي تضمن انتقادات للإداء الاسرائيلي في الحرب، لا يعني الكثير إذا لم يقترن بخطوات عملية.
ولا يبدو ان واشنطن في وارد اتخاذ أي خطوات عملية. ومن المتوقع أن يزور الكيان كل من مستشار الامن القومي وبعده رئيس الأركان الأميركي وبعده وزير الدفاع. والسؤال هو “هل يأتي هؤلاء للضغط من أجل تنفيذ كلام بايدن أم يأتون لأسباب أخرى؟”.
وفق الإذاعة الإسرائيلية، يأتي هؤلاء للتأكّد من عدم احتياج اسرائيل لأي شيء يساعدها على تحقيق النصر على “حماس” وتحقيق أهداف الحرب. هذه هي المهمة الأولى لهؤلاء، من دون أن يعني ذلك عدم التطرق الى “اليوم التالي”، ودفع الضريبة الكلامية المطلوبة لحل الدولتين.
ولكن كلام نتنياهو بعد تصريحات بايدن شمل تأكيد استمرار رفضه لأي دور للسلطة الفلسطينية في غزة، وتصعيد التهديد بضرب قوات السلطة في الضفة، والأهم إصراره على رفض حل الدولتين او إي عودة للربط بين الضفة وبين القطاع، واعتباره لاتفاق أوسلو أصلا نكبة اسرائيلية حقيقية أخطر من 7 اكتوبر.
يبيّن ذلك كلّه أن الطريق طويلة قبل ان يغدو لكلام بايدن أي معنى. فالولايات المتحدة غير مضطرة حتى الآن لممارسة الضغط على اسرائيل لا من أجل الفلسطينيين ولا من أجل عيون أي نظام عربي آخر. إذ مازالت إسرائيل هي درة تاج الولايات المتحدة في المنطقة، وهي غير مستعدة للتصادم معها من أجل أي جهة عربية كانت.