أن يتأجل لسنوات وعقود تسوية قضية أو أزمة أو أن يتوقف السعي نحو تسويتها فهذا ما يمكن فهمه في إطار كل حالة على حدة. أما أن تكون كل القضايا والمشكلات الدولية جديدها وقديمها، أو غالبيتها العظمى، مجمدة التسوية أو ممتنعة عن الحل وعصية تتحدى بتعقيداتها إرادة قوى عظمى، أو مستفيدة من غيابها وضعفها، فهذا ما يثير الانتباه ويطرح أسئلة عديدة تتعلق بالحال الحقيقية لنظام دولي ينسحب وبالحال المتوقعة لمرحلة ولادة نظام دولي جديد، هي فيما أعرف الانسحاب الأبطأ في تاريخنا المعاصر.
أبدأ من أبعد نقطة في الغرب. مرت سنوات وأمريكا اللاتينية تراقب باستغراب تطورات الأمور في شمال شرقي القارة وبخاصة في الأقاليم الاستوائية. القارة كلها تذكر كيف تدخلت الولايات المتحدة أيام كان هنري كيسنجر يخطط وينفذ فيسوي قضايا ويخطط وينفذ فيخلق قضايا وأزمات. تدخلت أمريكا لوقف عملية تحول أيديولوجي في جنوب القارة فظهر الجنرال أوجستو بينوشيه ليصفي بالقوة نظاما يساريا بعد فشل تجارب الصندوق الانتخابي. تدخلت في الحرب ضد متمردي كولومبيا وتدخلت تشجيعا لتيارات الانتقال إلى الديمقراطية. جاءت مرحلة تغيرت فيها القارة الجنوبية وتغيرت الولايات المتحدة، تغيرت مكانتها الدولية وفقدت عناصر قيادة داخلية واعية، حتى أنها عجزت لسنوات وما تزال عاجزة عن تسوية مشكلة نظام حكم متمرد في فنزويلا، عجزت الدولة العظمى في مواجهة مع فنزويلا، الدولة الضعيفة وقليلة الحيلة.
تجري منذ سنوات مفاوضات في قطر بين ممثلين لطالبان وممثلين للولايات المتحدة. أستطيع أن أتفهم بعض مبررات تعثر المفاوضات عبر سنوات عديدة. أتفهم مثلا ثقة الجانب الطالباني في قوته ومستقبل وجوده في أفغانستان. أتفهم أيضا انحسار ثقة الجانب الأمريكي في نفسه وكذلك مستقبل وجوده هناك. ولكني أفهم في الوقت نفسه قوة الوعي الزائف لدى القوى الحاكمة في كابول وقدرتها على تعطيل التسوية. في الوقت نفسه لا أستبعد رأيا يؤكد على قيمة الدور الباكستاني الذي يحبذ استمرار الوجود العسكري الأمريكي ورأيا آخر يبالغ في أهمية الدور الهندي. دخل على خط الاجتهادات المنشغلة بالتسوية المتوقفة من يعتقد أن روسيا من ناحية والصين من ناحية أخرى صار لهما من المصالح والزبائن في أفغانستان ما يحثهما على تعطيل التسوية بعض الوقت حتى تكتمل استعداداتهما لتسلم قواعد النفوذ أو الهيمنة من المهيمن الأمريكي المتعجل الانسحاب.
هناك في أقصى الشرق عشنا سنوات نعتبر الهند الصينية حيث وجدت فيتنام الشمالية والجنوبية ولاوس وكمبوديا إقليما تجري فيه حرب ساخنة متفرعة عن حرب باردة أشمل وأعم بين أمريكا والاتحاد السوفيتي. استطاع هنري كيسنجر، ضمن خطة أوسع لتسوية تاريخية، الانسحاب من الهند الصينية ومن بحر الصين الجنوبي بمنطق لا غالب ولا مغلوب، واستئناف العلاقات مع الصين، أو بمعنى أدق فتح أبواب العالم أمام الصين. خرجت أمريكا من حربها الباردة منتصرة بثقة في نفسها ومكانتها مبالغ فيها. كان معروفا أن الصين قادرة على أن تقترب من وضع ومواصفات الدولة العظمى ولكن لن تصل بأي حال في زمن محسوب إلى مكان القوة المنافسة للولايات المتحدة. مرت ثلاثة عقود حاولت خلالها الولايات المتحدة أن تحتفظ ببحر الصين الجنوبي قاعدة نفوذ أمريكي. أفلحت لسنوات وفي النهاية لا يختلف كثيرون على أن الإقليم ينتقل سريعا ليصبح منطقة نفوذ صيني بفضل خطوات الصعود الصينية المتسارعة مقابل خطوات انحدار أمريكية أيضا متسارعة. بمعنى آخر سوف تصبح كل قضايا النزاعات القديمة والجديدة بين الصين وكل الدول المطلة على بحر الصين الجنوبي ومنها إندونيسيا والفلبين قضايا مجمدة تخضع لقواعد القوة المهيمنة الجديدة، أي الصين. بهذا المعنى لن تسوى في الأجل المنظور قضية الجزر الاصطناعية والمحتلة في هذا البحر ولن تسوى قضية الجزيرتين المتنازع عليهما بين اليابان والصين في بحر صيني آخر، أما قضية تايوان فمصيرها المحتوم التصفية، وهو المصير الذي لم تنضج بعد كافة مكوناته، وحتى يحين الحين سوف تبقى موضوعا لحرب باردة بين الصين وأمريكا.
إلى متى وفي ظل أي ظروف دولية وإقليمية تستطيع قضية كشمير الاحتفاظ بحصانتها طويلة العمر ضد التسوية؟ لاحظنا، مثل غيرنا، كيف أن القوى الكبرى وبخاصة المملكة المتحدة ومعها الولايات المتحدة لم تبذلا جهدا يذكر لتحريك أي مشروع للتسوية في كشمير. نشبت حروب بين الهند وباكستان ووقعت تغيرات وتسويات ولكن لم تمس القضية الكشميرية. كشمير مثل فلسطين وهونج كونج وربما العراق والسودان كانت ولا تزال مع نماذج غيرها أهم ثمار العبقرية الاستعمارية البريطانية، كثيرا ما يقف المرء أمامها منبهرا بكفاءة رجال صنعوا قضايا للمستقبل حلولها غير قابلة لتسويات معقولة. المتوقع بطبيعة الحال أن تتغلب على هذه المناعة تطورات استثنائية في هياكل وفلسفة النظام الدولي الذي جرت في ظله هندسة وغرس جذور هذه النزاعات وتحولات جذرية في نظم الحكم والهجرة والطبيعة الديموغرافية وإمكانات الدول، وكلها أمور تتطور متدرجة وفجأة نراها الآن تحدث متسارعة. أول أمس خرج زعيم الهند ناريندا مودي بقرار غير دستوري يحرم به كشمير من حقها في حكم ذاتي، وما أكثر الاختراقات الدستورية هذه الأيام، ليحبط به نية الرئيس دونالد ترامب التدخل في القضية عن طريق عرض التوسط بين الهند وباكستان.
لن أكون أول ولا آخر من يعتبر الشرق الأوسط أكثر أقاليم العالم قضايا وأزمات وبعضها إن لم يكن أغلبها عصي على التسوية. هناك القديم جدا قدم التاريخ المدون وهناك الحديث جدا حداثة الخبر الطارئ. بعض هذا النزاعات يشتبك فيها الدين مع الخرافة والجهل ومع العنف السياسي وتزييف التاريخ ومع الإرث الاستعماري وصراعات السياسة وفسادها. هكذا تخلفت لنا وللبشرية عامة قضية الهيمنة الصهيونية على فلسطين والتدخلات الإسرائيلية في مصر والأردن وسوريا ولبنان وإيران وتركيا بهدف فرض المشيئة اليهودية على مستقبل الشرق الأوسط، تخلفت أيضا مأساة الشعب الكردي وكارثة العراق والأزمة السورية ونكبة الصومال وشبكة الحروب الأهلية في كل من السودان وليبيا. غالبية هذه النزاعات والقضايا تبدو غير قابلة لكثير من أساليب المفاوضة المعروفة مثل أسلوب التنازلات وإن متبادلة وأسلوب المصالحة التاريخية، مما يجعلها بعيدة عن التسوية أو يزيدها تعقيدا.
نظرة هادئة إلى وضع النزاعات الراهنة في الشرق الأوسط، أي تحت أوضاع دولية وإقليمية غير مألوفة، سمحت لنا بإثارة عدد من الملاحظات. لاحظنا أولا أن الوجود الروسي في الإقليم، وبانكشاف النية في بقائه مطولا، بدأ يؤثر تأثيرا مباشرا وقويا في سلوكيات الأطراف المتنازعة وفي التحالفات المتكونة حول النزاعات وفي أنماط الانفاق عليها مثل مشتريات السلاح وتدريب المفاوضين والتعامل بحرص مع المشورات الروسية.
لاحظنا ثانيا رغبات مترددة ولكن عارمة من كلا الجانبين، أطراف النزاعات الشرق أوسطية والجانب الصيني، في الاندراج في دوامات الشرق الأوسط. الكل يدرك أن الصين غير بعيدة عن إعلان نظامها الإقليمي الآسيوي بقواعد آسيوية وأساليب عمل آسيوية وتحالفات آسيوية، أو إذا دعا الأمر، أوراسية. لم تعد الصين مالكة بالثقة الممكنة رفاهة الاستمرار في سياساتها التوسعية تجاريا وثقافيا دون أن تعرض نفسها وأقلياتها الإيغورية لاختراقات من أنشطة متمردة أو عدوانية في وسط آسيا أو قادمة من تركيا العثمانية وإيران الثورية.
في ظل وضع إقليمي عربي تعتذر فيه جامعة الدول العربية عن تنفيذ واجب اقتحام ساحات النزاعات العربية العربية أو العربية شرق الأوسطية، وفي وضع إقليمي شرق أوسطي يخيم عليه ظل هجمة توسعية من كافة دول الجوار المتاخمة لحدود العرب وتتوارى فيه إرادة الحوار الصريح أو حتى الممكن، وفي ظل اهتمام منحسر من جانب أوروبا والغرب عموما بقضايا الشرق الأوسط ونزاعاته، أستطيع أن أثق في صحة الرأي القائل بأن الإقليم بلونيه العربي والشرق أوسطي مرشح لمرحلة من النزاعات تختلف جوهريا في العدد والشكل والصنف والعنف عن كل المراحل السابقة. أستطيع أيضا تبني رأي آخر يعتقد أن جهود تصفية قضية فلسطين سوف تزداد، وقد تسلك مسالك أخرى أشد وعورة وتكلفة، باعتبار أن الفرصة للتصفية قد تكون الأخيرة.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق