بعيداً بعيداً ذهب عبد الحليم كركلا، ولكنه لم يشأ ولم يستطع معاً ان يغادر جلده، بيئته، موروثه الثقافي من صهيل الخيل إلى الصوت الأجش العريض بحنانه لرجال وجوههم بلون القمح وأيديهم من صوان وأجسادهم بليونة السنابل وفي قلوبهم الهادرة ينبت الياسمين.
يكاد يكمل عبد الحليم كركلا دورة كاملة حول الأرض.
لقد ذهب ومعه أذنه وعينه إلى الأمكنة القصيّة. عرض وشاهد، أسمع وسمع، قرأ واختار ما يمكن ان يكتبه رؤاه بالمشهد الحي، بالخطوة العفية، بالنغم الشجي، باللباس الفخم الكاشف لرشاقة الحركة وليونة أولئك الذين يضيفون بأجسادهم إلى الكلمات أخيلة الشعراء وتهويماتهم التي يتبعها الغاوون.
لكن بعلبك ظلت حاضرة إلى جانب عبد الحليم وضمنه، تشده إليها كلما كاد يضيع، وتحضنه كلما كاد يأخذه الانبهار بالعوامل الأخرى إلى حيث يتساوى الكل بالكل، وتنشأ مباراة من نوع مختلف بين المخزون الثقافي لكل شعب أو أمة، مع القدرة على تطويره والتجديد فيه من دون أن يفقد أصالته وزخمه المتراكم عبر القرون.
عمر كركلا حاضر دائماً، كالقلعة، لين الحركة كأطباق بيلسانة تهز أعطافها الرقيقة نسيمات ربيعية، ولكنه ثابت الخطوة يمشي كأنما خلع آخر ملك طاغية أو أنه في الطريق إلى خلعه لأنه خان أرضه.
الأهازيج أجيال تترى، والخطوات آثار أقدام من عبروا، الحداء من الفخر، والحماسة للحرب، والرقة المتموجة كالأطياف للحبيب المترنح الاعطاف بالشوق، أما الحزن فملح الأرض وإن كان يجيء دائماً فاصلاً بين فرحين أو إطاراً مجسماً لفرح تضخه الأرض في أهلها فيشدهم إليها يعطونها وتعطيهم حتى يطيب الغناء وتتهدج أصوات الرجال غزلاً بأوصاف الحبيب بينما اسمه الذي يتخلل الأوردة لا يُعلن وان نطقت به العيون جميعاً.
كلهم يتلاقون في ذلك المدى الرحب للأوف، في لوعة الوجد تئن بها شعيرات ذنب الحصان التي تشكل أوتار الربابة، في ”الماني” و”الزينو” والشروقي والبداويات و”الدلعونا” و”تنشيدة العريس”،
من البابليين إلى السومريين، ومن الكلدان إلى الآراميين، ومن الكنعانيين إلى الفينيقيين، ومن العرب البائدة إلى العرب العاربة والمستعربة، كلهم يتجمعون في ”يا ويل حالي” و”يا هويدلك” و”يا رايحين مشرق” و”يا عرب يا شرقية”.
ولأن النفس غنية فهي تعرف ماذا وكم ومتى تأخذ من الآخرين الذين عبروا. ولأن الناس يتلاقون ويتقاطعون في أحاسيسهم، وتتلاقح تعبيراتهم عن مشاعرهم وهم يصدحون بقصص حبهم الخالدة، تتمازج النغمات، وتتداخل الرقصات وتتماثل المشاهد.
هذا قبل أن يدخل التكنيك وفنون الإخراج الجديدة التي تجعل المخرج مبدعاً يضيف برؤيته إلى أصل العمل، ولا يكتفي بتفتيت النص ومحاولة ترجمته بالحركة والإضاءة والتكوين.
في العمل الأخير لعبد الحليم كركلا يحاول، وأكثر من مرة سابقة، أن يقدم نفسه في صورتين معاً: إلى أين وصل، مع التوكيد على محطة الانطلاق والمرسى الأخير.
لم تعد الدبكة هي الدبكة تماماً، لكنها لم تتحول إلى باليه.
وظفت حركة الأجساد في عمل أغنى إيحاء من الدبكة وإن كان، ربما، أقل عاطفية منها.
ذاب الفرد في المجموعة وهي تكتب بحركتها المعنى الكامل، الذي يفترض صاحبه انه يجمل فيه كل ما تقدمه مجموعة الأغاني القديمة التي بات يخشى عليها من استهلاك ذاتها والتجمد في قوالب تقليدية قد تنشي لبعض الوقت، لكنها تتطلب اكتمالاً بالانعم من النغم، والاندى من الحركة، والأرق من التعبيرات عن الحب الصاخب.
عبد الحليم كركلا مسافر زاده الشمس، جاء بالبحر إلى بعلبك وملأها سفيناً ورجالاً ونساء وحركة عفية تغني الجمال وتفتح أبواباً للحياة الجميلة، في عصر السقوط.
و”أليسار” تقع في منتصف الرحلة، أو هي الرحلة الفن التي ستجد اكتمالها غداً في ”الأندلس”.
والماضي زاد للمستقبل، لمن لم يتنكر له ولم يغرق فيه.