ليس أصعب من العراق: إنه حيث تتلاقى الذرى القاسية، وحيث تتجمع مفارقات التاريخ وتناقضاته مع التشويهات السياسية للجغرافيا البشرية.
و”العراقي” ممزق بين الحدين الأقصيين، في كل أمر، لا يعرف وسطد ولا يطيق أن يقف منه الآخرون في الوسط بين حزنه العميق الصحراوي الاتساع وبين تعطشه لفرح يأخذه إلى خلف البكاء.
يحب بغير حدود، يكره بغير حدود، يسكر بغير حدود، يندفع مع الشعر متخطيد كل الحدود، يغوص في تاريخ بلا قعر ويتسلق جدار مستقبل بلا سقف… لم يذكره التاريخ في غير صفحاته السوداء إلا نادرد، وهو يكافح ليقول إنه مساهم عظيم في كتابة الصفحات البيضاء.
فوق هذا كله؛ فاللهجة العراقية صعبة؛ تحس انها مكوّنة من مجموع الآمال المحطومة والأحلام المكسرة وأيام الهناءة التي تقصفت قبل اكتمال دورتها. تجمع فيها الغضب واليأس والخيبة والحدة و”بواقي” لغات الأقدمين ولهجاتهم. ترتطم الكلمات الفارسية الجذر ببعض التعابير المأخوذة من الكردية ومعهما إضافات من التركية، وحين تخالطان البدوية تنكرهما فتبقيهما على مسافة من “العربية”، فيتعب السامع بقدر ما يتعب المتحدث مهما كان فصيحد.
ولعل أعظم إنجاز لكاظم الساهر، قبل صوته، هو إبداعه في إيصال اللوعة العراقية بكلمات بسيطة، يتأنّى في نطقها كما تأنى في اختيارها أو في نظمها، بحيث يفهم السامع فيطرب وقد استوعب “الصورة” في حين كان يعاني مع سابقي هذا المغني الشاب، إذ يهزه الطرب ولكنه لا يبلغ النشوة المتلطية خلف الكلمات غير المفهومة والتي تحتاج الى من يترجمها.
كاظم الساهر فنان أبرز ما فيه ذكاؤه.
هو “كله على بعضه” حلو.
لقد نجح في تعميم الأغنية العراقية كما لم يحدث من قبل، برغم ما في الغناء العراقي من إبداع سواء في الصورة المأساوية الى حد الفجيعة، أو في اللحن الذي يأخذك الى ذروة الشجن، فيبكيك من شدة الطرب.
انه مترع بالحزن حتى الثمالة، ولذا قدر على أن يخرج منه، ونجح في اختيار المدخل إلى الفرح الجديد: الحب.
ولأن الحب العظيم بسيط، فقد ساعدت بساطة الكلمات، والتأني في نطقها، والتخفيف من التراث الموسيقي المثقل باللوعة، في إحداث نقلة نوعية في علاقة الجمهور بالأغنية العراقية.
كذلك فقد أضاف لمسة “لبنانية”، إذ يفاجئك حين يطمئن الى انه قد أطربك، بأن يشبك يديه مع مجموعته الصغيرة المنتقاة لتقديم وصلة “دبكة” عراقية لا تشوش على جو الغناء بل تضيف إليه.
في المقابل فقد حفظ للغناء “المصري” مكانته، إذ يعلن عن طربه هو شخصيد باستحضار واحدة من أغاني عبد الوهاب (بفكر في اللي ناسيني)، أو عبد الحليم حافظ (مغرور)، وتكون مناسبة لإطلاق الحزن العراقي المعتق مضمخد بالنشوة المصرية التي غالبد ما عبرت عن أحزانها بالآه ويا ليل يا عين.
لكن “بغداد” سرعان ما تجيء لتعيد كاظم الساهر الى قلب الوجع الذي لم يغادره قط، والذي لا يتعب كثيرد في أخذنا إليه، لأننا دائمد فيه.