أكتب هنا عن قمم الجبال في حياتي، قمم صادفتني وقمم سعيت إليها، قمم تأثرت بها وقمم علمتني الكثير، وكلها، على عكس قمم البشر، لم تتأثر بوجودي سواء كنت مقيما عند سفحها أو صاعدا نحوها أو مستقرا في حضنها.
حكاياتي مع قمم الجبال تبدأ أمام خلفية شديدة التواضع. ولدتني أمي ونشأت عند سفح المقطم. كنا في البيت ومع الأصحاب وفى قاعات الدرس ورحلات فريق الكشافة نتعامل مع المقطم باعتباره جبلا. تصورنا على امتداد المرحلة الابتدائية أن تكون الجبال على هذا الحال في كل مكان، هكذا تكون في الشكل وفى الارتفاع وحتى في اللون. تغيرت الصورة نظريا في المرحلة الثانوية ثم فعليا وعمليا في أول وثاني رحلة جامعية، تغيرت والحافلة تصعد بنا أو تهبط من قمة إلى أخرى في الطريق إلى مدينة طبرق شرق ليبيا، ثم وفى العام الدراسي التالي وما زلت دون الخامسة عشرة من عمرى تأكدت هذه الصورة الجديدة ونحن نعبر آخر سهول السودان صاعدين نحو جبال كردفان في جنوب السودان.
***
كانت سفوح الهمالايا أقرب تلامسا ممكنا في حياتي يحدث بيني وبين القمم الشاهقة. كنت في مأسوري عند سفوح الهمالايا أعلى بكثير من أي قمة للمقطم صعدت إليها. أذكر أننا كنا خليطا من الأجانب نزحوا من العاصمة نيودلهي في إجازة قصيرة خلال شهر يونيو، أشد شهور القيظ في الهند. أغلب النازحين من رفاق الرحلة ولدوا ونشأوا في بلاد جبلية. لم تبهرهم القمم الجليدية المحيطة بهم كما أبهرتني. قضينا وقتا بهيجا وعدنا. المثير فى الرحلة أنه باستثناء الانبهار بمنظر الجليد عند القمم لم تثر الهمالايا في نفسي عواطف أو مشاعر قوية على غير ما أثارته قمم أخرى أقل شموخا خلال إقاماتي في دول عديدة.
***
هناك في أمريكا الجنوبية تمتد جبال الأنديز في سلسلة تكاد تلتصق بالشواطئ الغربية للقارة. من حسن حظى تقرر أن ألتحق بسفارتنا في سانتياجو عاصمة شيلي. كنت منهمكا أقرأ في الطائرة السويسرية التي نقلتني من زيوريخ إلى سانتياجو مرورا بداكار وريو دي جانيرو وبيونس آيرس عندما صدمني فأفاقني من القراءة صمت رهيب. انتبهت مصدوما إلى أن جميع محركات الطائرة متوقفة، أو هكذا تخيلت، وهدأت الأصوات داخل كابينة الركاب. رحنا جميعا ننظر من الشبابيك لنرى سطحا من القمم الجليدية المترابطة، واحدة منها تحظى بمكانة إحدى أعلى القمم في العالم، إنها قمة أكونكاجوا وارتفاعها سبعة آلاف متر فوق سطح البحر.
فهمت أن صمت الركاب له ما يبرره. فما كنا نراه لن يتكرر. لن تسنح ببساطة فرصة أخرى لنكون شهودا على قمة مهيبة ونادرة ومثيرة لمشاعر متنوعة. أما صمت المحركات فلم أجد أو أسمع له تفسيرا مناسبا. أكان تعبيرا عن احترام طاقم القيادة لهيبة المكان والمشهد أو خوفا من أن تتسبب المحركات في تحريك كتلة أو أخرى من الجليد غير البعيد عن الطائرة فيختل تناسق عناصر هذه اللوحة الفريدة في جمالها وهيبتها، والأدهى ما يمكن أن يحدث للطائرة وركابها نتيجة هذا الاختلال.
***
أذكر أني بعد أكثر من خمسين عاما على هذه الرحلة التقيت الدكتور مينا النجار أحد كبار متسلقي القمم عقب وصوله للقاهرة عائدا من رحلة تسلق لهذه القمة عن رد فعله لهذه الظاهرة فجاءت إجابته تحمل المعاني والمشاعر نفسها مضاف إليها أسباب أخرى للانبهار.
سكنت لمائة يوم سانتياجو، المدينة الساحرة المقامة في وادٍ تحيط به القمم من كل الأرجاء. قمم أكثرها يتحلى في الشتاء بطبقة من الجليد. أذكر أن قمة من هذه القمم اختارتها معلمتي للغة الإسبانية لكونها حسب قولها «الموقع المناسب جدا لتعلم هذه اللغة ذات النكهة الشاعرية والإيقاعات الموسيقية الرفيعة». بالفعل تعلمت مبادئ الإسبانية في مقهى أنيق الذوق مقام على حافة الهضبة عند القمة، عشت بعدها سنوات أربع فى بيونس آيرس عاصمة الأرجنتين أتكلم الإسبانية متذكرا فضل كل من قمة سان كريستوبال ومعلمة الإسبانية.
***
كانت لي في أوروبا تجارب مع جبال كثيرة ولكن ليس مع القمم. تصادف أن عشت أياما في لوسيرن على شاطئ البحيرة وفى برن عاصمة الاتحاد السويسري. مررت بسهول ووديان تجوب أنحاءها أبقار جميلة بأجراس زاعقة. ومررت بجبال «آلبية» عديدة وقمم متنوعة الارتفاع. أذكر بصفة خاصة ليلة قضيتها في منطقة إنتر لاكن في فندق محشور بين قمتين وبين جبليهما نهر ضيق لا يصدر عن جريان مياهه صوت يذكر. أحرجني انبهار أصحابي بجمال المكان وروعة الخالق وإبداع الإنسان، لم يكن بوسعي إلا أن أشكو ضيق التنفس وضغط الجبلين والسكون المطبق. تعلمت ليلتها أن للجمال الخارق أوجها أخرى وتأثيرات مختلطة. تذكرت تمثال موسى في قبو كنيسة في مدينة روما، تذكرت يوم وقفت أمامه وقد اشتبكت في داخلي مشاعر الإعجاب والحيرة والانبهار والخوف الأكيد والشك الأعظم. كلها في لحظة تأمل في أحد أعظم أعمال مايكل أنجلو.
***
يجدر بي قبل الانتقال إلى قارة أخرى أن أنوه بالقمم الصغيرة القريبة من فيينا عاصمة النمسا. أعلن أولا أنني شديد الانحياز للمدينة التي استحقت شرف أن تدخل التاريخ باعتبارها واحة للفن والموسيقى والفلسفة. هناك وعند قمة قريبة اصحبوني لأتذوق بعض أطايب الحلوى والقهوة الفيناوية الأشهر في كل أوروبا. هناك في المقهى المطل من على المدينة الساحرة تشرفت بتذوق أطيب فطيرة تفاح دافئة بين عديد الفطائر التي تناولتها في رحلاتي المتعددة متنقلا بين سهول أوروبا وجبالها وقممها.
من القمم المذهلة والمهيمنة على كل ما حولها قمة كليمنجارو البركانية في تنزانيا على حدودها مع كينيا. زرتها مرتين زيارة خاصة فهي لم تكن تقع على طريق برى عبر شرق إفريقيا. لم أصعد الجبل ولكنى سمعت وقرأت في صغري أن هذا الجبل البركاني الأصل يحوى في درجاته على جميع الأقاليم النباتية والحيوانية الموجودة على سطح الأرض. لم تسمح الظروف أن ارتقي هذه الدرجات لأتأكد مما سمعت وقرأت. يكفيني أني تخيلت الدببة القطبية وثعالب الفرو تعيش على ارتفاع ستة أو سبعة آلاف متر وعلى السفح ومعنا تعيش الأسود والقرود والأفيال وذوات القرن.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق