استأنفت ما كنت أفعل قبل زيارتها المفاجئة. مرت دقائق تيقنت في نهايتها من أنني فقدت بعض لياقتي التأليفية. الكلمات تتعثر، والأفكار تتعنت، والسبب ليس صعب الفهم أو التخيل. أغلب ظني أنني لمحت دمعة تحاول التفلت من أسر عين لتنساب حرة طليقة على خدٍ. هي واحدة من نساء اقتربن من طبيعة عملي واهتمامي إلى حد صارت تفاصيل حيواتهن جزءا من هذه الطبيعة. وحلت متابعة تطورات أحوالهن أمرًا من أموري العادية. أفراحهن من على البعد أفراحي، وأحزانهن أحزاني. فاجأتني بضعفها في وجودي. أحسست بمشاعرها تتضارب وتتدافع نحو أزمة تكاد تسيطر عليها وتهيمن وهي القادرة دائمًا على التغلب على الضعف أمام الغير وبخاصة أمام صنف الرجل.
تدافَعَت في مخيلتي الذكريات. عرفتها امرأة في عمر الشباب. كلاهما من نوع خاص. كانت امرأة من نوع خاص، وكانت شابة من نوع خاص. جمعت في شخصيتها نعومة النعامة وصلابة الفولاذ، وفي جسدها اجتمع إبداع خالق فريد بروح فنان من البشر، وفي عينيها اكتمل سحر الكتمان بعبقرية البوح والتصريح. كنت هناك عندما أحبّت، وعندما قررا أن يتزوجا، وعندما أنجبا طفلهما الأول. كنت هناك عندما تولت منصبًا جامعيًا هامًا، وعندما كُلّفت بإدارة وتسيير مؤسسة سياسية من أهم مؤسسات الحكم في الدولة. لم أسمع يومًا أنها قصّرت في توفير البيئة اللازمة لعش زوجية يتغير مع الوقت شكلاً ومكانًا ويتسع مع كل زيادة في عدد سكانه. يفوح في جنباته عطر الهناء والرخاء، وتزدان جوانبه بعلامات السعادة حتى صار نموذجًا لم يفلح في تقليده إلا القليلون.
•••
مرات عديدة التقينا في مدن غير القاهرة. التقينا مرات بالصدفة ومرات بالترتيب عندما كنا نسافر ضمن وفود رسمية أو ثقافية. أنا شخص أحب السفر. لا شيء يمتعني مثل التجوال في أحياء مدن لم أزرها من قبل أو في شوارع مدن زرتها فاحتضنتي. أمشي في شوارع بدون أسماء. أسحب كرسيًا وأجلس أمام محل إلى جانب صاحبه. يحكي لي عن تاريخ الشارع وأيام كان يساعد والده ويتعلم منه أسرار المهنة ومراسم التعامل مع الزبائن. أسأل عن تقلبات الزمن. أسأل عن سنوات شاقة وسنوات خضراء. أسأل عن أهل الحي وكيف تغيروا، أ للأحسن في رأيه أم للأسوأ؟. أشرب قهوته وأنا أستمع إلى تسجيل حي لمرحلة في تاريخ شعب. متعة لا تعادلها متعة أخرى من متع السفر العديدة. أنهض ساحبًا الكرسي إلى حيث كان ومودعًا الرجل وشاكرًا كرمه وحسن ضيافته. كان موعدنا سيحل عند انتهائهما من جولة تبضع، وكان لقاؤنا سيتم في مقهى بعينه. مقهى قضيت في بعض أركانه أحلى ساعات رحلاتي إلى هذه المدينة المحببة إلى قلبي وعقلي، وأكلت على موائده أطيب ما أبدع صنعه طهاة العرب من حلوى، وشربت من القهوة أقواها طعمًا ومفعولًا.
•••
وجدتهما في الانتظار. قادني إليهما نادلي المفضل ولم ينصرف عنا إلا بعد أن همس في أذني بكلمات لا تصدر إلا عن خبير صادق وحكيم. فهمت من همساته إنه لم يشأ أن يزعج صديقي وصديقته فيسألهما عن رغباتهما من أنواع المشروبات والمأكولات لديه، “في الحقيقة، وأرجوك وأنت العميل القريب إلى قلوبنا أن لا تغضب، لم أشأ من على البعد أن أفقد مشاهدة هذا الفيض من الحب الذي عشت لحظات أتأمله مستمتعًا. دخل صديقك ورفيقته إلى مقهانا تسبقهما وفي ركابهما أجواء حب كبير. سيدي، أنا لا أبالغ حين أقول أنني لم أشاهد كل هذا الحب في أي يوم من أيامي هنا. أؤكد لك أن الرضا الذي اكتسى به وجهك لحظة دخولك إلى المقهى كان بعضًا من لفحات حب أسبغاه بوجودهما في المكان وطلاتهما، وما تبادلاه بنظراتهما من أحضان على أشياء المقهى والعاملين كما على الزبائن. الآن اسمح لي بأن أتوجه لهما بالاستفسار عن أفضلياتهما من مأكولات ومشروبات، وليتك تشير عليهما وتتدخل في اختياراتهما. كنت دائمًا أحسن الذواقة وأفضلهم على الإطلاق”.
طلبت منهما مرافقتي في جولة ندور خلالها على معروضات المحل المرتبة بأناقة وجمال داخل خزائنها الزجاجية. حاول الزوج التهرب بالطلب إليها أن تختار نيابة عنه كما تعودا. رفضنا كلانا. هناك في صالات العرض استدارت لتلفت نظر زوجها إلى براعة العرض بأن ذكرته بيوم من أيام رحلة مشهودة لهما في مدينة النور. يومها وقفا أمام قطع نادرة الجمال والقيمة. تحكي لنا عن ذلك المشهد فتقول “كنت أركز منبهرة على أغلى ما في الكون من مجوهرات في محل هو بدون شك الأشهر، لم انتبه إلى أن زوجي هذا الذي يقف بيننا الآن كان يتابع نظراتي ومواقع تركيزي. كان كعادته التي تعرفت عليها في الأيام والسنوات اللاحقة واعتدتها بدوري يقرأ ما أفكر فيه ويسبقني إلى القرار. يا الله ما أطيب هذا الرجل وأزكاه”.
•••
صديقتي وَعَدت وأوفت. كان قد مر على تعارفهما ثم زواجهما عقود غير قليلة، وعلى اجتماعنا في المقهى عقود أقل. عادت وجلست أمامي في صالون مكتبي جلسة من أعدّ خطابه إعدادًا جيدًا. شربت قهوتها وأطفأت سيجارتها التي استأذنت أن تدخنها وحملتها في طفايتها إلى حمام الغرفة وعادت بها بعد غسلها لتضعها في مكانها. عرضت عليها قهوة أخرى فقالت “أراك مشغولاً بي وقلقًا أكثر من انشغالي بنفسي. أنا لست قلقة أو متوترة. انتهت نوبات القلق والتوتر. تعرف كم أحب زوجي وسمعت مني الكثير والمطول عن السعادة التي عشت أرفل فيها طوال سنوات زواجنا. حكيت لأولادي عندما كبروا عن هذه السعادة، وكيف أن لها الفضل في سعادتهم كأطفال ثم كمراهقين وشبابا. حكيت لكل من يسأل من زميلاتي وزملائي في مجالس الكبار من الرسميين عن السر في نجاحي اجتماعيًا ووظيفيًا وسياسيًا. لم أخفه أو أكتمه في صدري، إنه حبي لهذا الرجل الفريد في أخلاقه وقيمه وعلاقته بي وبأولادي. لا أرى من هو أجمل أو أفضل أو أكثر التزامًا منه. ولا أظن أنني سوف أقابل نظيره في أي موقع أو بيت”.
سكَتَت وأطرقت ثم نظرت نحوي مليًا بعيون هائمة وقالت، “هل تعرف أن زوجي وبطل حبي لم ينطق مرة واحدة بكلمة أحبك. لم أسمعها منه. عشت كل مراحل العلاقة التي ربطتنا، وسوف تربطنا إلى الأبد، أحلم بها تصدر عنه وليس عن غيره من عشرات لم يبخلوا بها أو كتموها في صدورهم. تمنيت أن أسمعها منه يوم خطوبتنا، ويوم زواجنا وليلته، ويوم ولادة ابني، ثم ابنتي، وأيام قضيتها إلى جانبه عند انتكاس صحته. لم يخطئ مرة واحدة وينطق بصوت عال أمام الناس أو بهمسة في أذني بالكلمة الأروع نغمة ومعنى وعاطفة، الكلمة التي تقدسها كل امرأة، كلمة أحبك. مسكينة أنا. أحب رجلاً ويحبني ولا يريد أن ينطق بكلمة أحبك. عزائي الوحيد أن شاعرًا أحببت شعره في صباي كتب قصيدة يقول في صدارتها: أحبك.. لا.. لا تنطق الكلمة.. دعها بجوف الصدر منبهمة”.
ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق