وصل دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية من خارج التوقع، والكل يحتاج إلى وقت طويل حتى يستوعب هذا «الانقلاب» الذي يقدم دليلاً إضافياً على أننا أمام عالم مختلف تماما عن إرث الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما في الإدارة كما في السياسة، لا سيما الدولية منها.
ولأن «النظام العربي» هو الأكثر هشاشة وعجزا عن الإنجاز، فلقد بادر الرئيس الأمريكي الجديد إلى طمأنة بعض «أقطابه»، إما عبر الهاتف (السعودية ومصر) وإما بالتكريم عبر الاستقبال المبكر في البيت الأبيض (ملك الأردن..).
بل إن الإدارة الأمريكية الجديدة لم تتأخر في إظهار اهتمامها بالدولة العربية التي نسيها أهلها العرب، اليمن، فلم يتذكرها منهم إلا الطامع في الهيمنة عليها، أي النظام السعودي فشن عليها حرب التدمير والقتل منذ سنتين إلا قليلا، وهو ماضٍ فيها حتى الآن، وقد استدرج معه بعض دول الخليج العربي، وتحديدا الإمارات العربية المتحدة التي كان رئيسها المؤسس المرحوم الشيخ زايد بن نهيان يتباهى بأصله اليمني..
ومع أن هذا الاهتمام المتأخر باليمن يمكن إدراجه في سياق المعركة التي يبدو أن الرئيس الأمريكي الجديد يحاول تجديدها ضد إيران، أو كنجدة للسعودية التي تشن حربا ظالمة ومستحيل الانتصار فيها على أفقر شعب عربي (وربما في العالم..)، إلا أن هذا الخيار يزيد منسوب القلق في سلامة القرارات التي يتخذها الرئيس الأمريكي الذي استقبلت فوزه أعظم تظاهرة غضب شعبي في تاريخ الانتخابات الرئاسية.
وأما إسرائيل ففي الحفظ والصون، والقرارات الأولى للرئيس الأمريكي الجديد توحي بأنها قد تكون الأعظم تأييدا لسياسة التوسع التي تنتهجها حكومة نتنياهو كمدن تشطب تدريجيا فلسطين عن الخريطة، وتندفع بالعنصرية إلى ذروة عدائها للإنسان.
***
على أن اللغز المثير في تصرفات هذا الكاوبوي المالي، دونالد ترامب، يبقى مركزا على العلاقة الخاصة التي تربطه بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين والتي فاجأت الرأي العام الأمريكي، بل الدولي، خصوصا بعد الربط بين زيارات خاصة قام بها ترامب، قبل المعركة الرئاسية، إلى روسيا وأحاديث متواترة عن صفقات تجارية وعلاقات نسائية (لا يمكن أن تبقى خاصة في بلاد يحكمها خريج الكا. جي. بي. بوتين..).
ثمة تأكيدات رسمية عن زيارة يمكن اعتبارها سابقة، سيقوم بها الرئيس الروسي إلى الولايات المتحدة الأميركية ستكون الأولى في تاريخ العلاقات بين البلدين، وبالتأكيد فهي ستكون خاتمة عهد جديد في العلاقة بين هاتين الدولتين اللتين عاشتا طويلا في ظل خصومة عقائدية ــ سياسية ــ اقتصادية شاملة، قاربت الحرب أحيانا ووقفت عند حافتها أمام ساحل كوبا.. وقد انعكست هذه «الحرب» على العالم الذي انشطر نصفين متخاصمين قبل أن تخرج على هذا الانشطار مجموعة دول عدم الانحياز التي فقدت معنى « حيادها الايجابى» مع غياب قادتها ومؤسسيها الكبار: نهرو وجمال عبدالناصر وسوكارنو وشوان لاي.. ثم مع تهاوي الاتحاد السوفييتي وعودة روسيا منهكة إلى حجمها الطبيعي (من دون معسكرها الذي كان يشمل نصف أوروبا، تقريبا، ومناطق نفوذ عدة في أنحاء مختلفة من العالم).
على أن فلاديمير بوتين، الذي جاء من المخابرات الروسية (كا. جي. بي) إلى الرئاسة، يتناوبها شكليا مع سيرغي ايفانوف، سرعان ما أعاد الاعتبار إلى الدور الروسي عالميا، وأكد حضور موسكو الفاعل على المستوى الكوني، مخترقا أسوار الحصار، بحنكة عالية، مقتحما مناطق كانت محظورة على روسيا في الغرب والشرق، وصولا إلى دنيا العرب التي كان «الاتحاد السوفييتي» قد أُخرج منها، (في السبعينيات) وأحيانا بشكل لا يتناسب مع «هيبته» وقوته العسكرية..
وهكذا انفتحت أبواب الكرملين أمام ضيوف بالكوفية والعقال، بينهم مسئولون سعوديون وإماراتيون فضلا عن الكويتيين.. وعادت موسكو إلى المشرق من بوابة دمشق ودورها الحاسم، عسكريا وسياسيا، في حماية النظام السوري ووقف انهياره وفتح أبواب المفاوضات مع معارضيه، بعد «تبرعها» بنجدة نظام اردوغان في وجه الحملة الأمريكية عليه، إثر محاولة الانقلاب العسكري الفاشلة التي قام بتدبيرها خصمه اللدود المقيم في الولايات المتحدة فتح الله غولن، وهذا ما جعل الرئيس التركي عظيم الطموح إلى دور السلاطين يغرق في «جميل» الخصم الذي انجده في لحظة الضيق، بينما تخلى عن المبادرة إلى التضامن معه الحليف التاريخي ممثلا بالولايات المتحدة الأمريكية تحت رئاسة باراك اوباما.
لقد أنجز فلاديمير بوتين صورة روسيا الجديدة ودورها المستجد الذي فتح أمامها أبواب العالم كله تقريبا، وهو دور حيوي وفاعل في السياسة كما في الاقتصاد (النفط أساسا ومعه الذهب)، كما في المجال العسكري حيث أسقطت «السياسة الجديدة» الأسوار العالية التي كانت قائمة أيام «الستار الحديديد»، فدخل السلاح الروسي إلى دول كانت توقفت عن استيراده (مصر، مثلا) كما إلى دول جديدة لم تكن تعرفه..
أن روسيا قد سبقت إلى تطبيق سياسة الأبواب المفتوحة، ويمكن أن يسجل لوزير خارجيتها سيرغي لافروف أنه الأنشط بين أقرانه في الشرق والغرب، فهو يكاد يكون في كل مكان من أوروبا، بغربها وشرقها، وهو يكاد يكون مقيما في جنيف لمتابعة مفاوضات لتسويات متعددة يعمل لها، بل هو في الخليج العربي أيضا ينسق مع بعض من كانوا يتجنبون مجرد السلام عليه، فضلا عن أنه يدعو ضيوفا غير رسميين من دول عربية وأفريقية وبعض أمريكا اللاتينية، ليؤكد لهم أن روسيا معنية بقضاياهم، ولا تطلب غير الصداقة وكسر حاجز العداء المسبق الذي كان يمنع التواصل ومن ثم التفاهم من حول المصالح المشتركة.
ويمكن القول إن الخارجية الروسية قد تكون الأنشط بين وزارات خارجية الدول الكبرى (والمتوسطة أيضا).. فكل يوم ثمة ضيف أجنبي أو أكثر، وثمة حواجز تُكسر أو تُزال من أمام الدبلوماسية الناعمة، وثمة علاقات ودية تنشأ مع «خصوم سابقين» أو مع دول أكرهت على مجافاة مصالحها والامتناع عن إنشاء علاقات طبيعية مع «دول الستار الحديدي» سابقا الذي يكاد السباق معه الآن يتركز على سياسة «الأبواب المفتوحة»، مع إصرار على طي صفحة الماضي واعتماد سياسة المصالح التي لا خصومة فيها ولا عداوات.
*****
نحن إذن، أمام خريطة جديدة للعلاقات الدولية، متخففة من خصومات الماضي، العقائدية منها والسياسية، التي استولدت عالمين «متحاربين» على مستوى الكون، سياسيا واقتصاديا وعسكريا.
إن التلاقي المفترض بين الرئيس الأمريكي الجديد، الآتي من عالم المال والمضاربات، وبين القيادة الروسية دقيقة الحسابات مع استعداد للانفتاح المحكوم بالمصالح، سيبدل جذريا في العلاقات الدولية، وستسقط مقولة «الغرب غرب والشرق شرق، واللقاء استثناء وليس القاعدة في العلاقات بينهما»…
إنه عالم مختلف عما عرفنا فألفنا، هذا العالم الجديد الذي يولد وقد سقطت الحدود بين دوله، بعدما سقطت الايديولوجيا التي كانت تحكم أرجاءه فتفرض المواجهة والمنافسة في السياسة كما في الاقتصاد والاجتماع والعلاقات الدولية.
ومن أسف فإن «العرب» عموما، غائبون أو مغيبون، عن هذه التطورات غير المسبوقة في العلاقات الدولية… فأكثرية دولهم أشبه بطالبي اللجوء السياسي عند الأمريكيين، منهم بالشركاء في القرار، خصوصا وأنه لا مجال لموقع «الحليف» في علاقة يغيب عنها التكافؤ في الأوزان وفي التأثير.. والأخطر في الاستغناء عن «الحماية» والمساعدات التي تسد عجز الموازنة.
إنه عالم جديد لن يكون للعرب فيه دور أو قدرة على التأثير..
ولمن يريد شواهد ناطقة فلينظر إلى ما أصاب ويصيب قضية فلسطين، بشعبها أساسا وبأرضها استطرادا، يدرك حقيقة حالة العرب في عالم القطبين العالميين الساعيين الآن إلى التفاهم وتقاسم النفوذ في دنيا المصالح.. والعرب في موقع «الغنيمة» التي ليس لها حق المفاضلة بين العدوين السابقين المتجهين الآن إلى التراضي على ضوابط مرحلة ما بعد «الحرب الباردة».
ينشر بالتزامن مع جريدة الشروق