ما أشدّ الاختلاف بين الصحافة وباقي المهن.
القاعدة أينما كان أن تبدأ صغيرا وتكبر مع مرور الوقت وتراكم التجارب.
أمّا في الصحافة فأمام المرء خياران، إما أن يبدأ صغيرا ويبقى صغيرا، أسير التزلّف والتكسّب والرياء، أو أن يبدأ كبيرا ويبقى كبيرامهما طال الزمن أو تبدّلت الأحوال.
منذ بداية حياته المهنية، وخلال قيادته لسفينة “السفير”، اختار طلال سلمان أن يبقى، في كل الظروف، عزيزا، أبيّا،رافع الرأس، موفور الكرمة، منحازاً لالتزامه المبدئي، غير مكترث للمنافعأ والخسائر.
اختار ألّا يحني رأسه لأحد، لأنه يحمل في عقله وقلبه وفي “جيناته” أنَفَ أهل البقاع، وما يتميّزون به منتمرّد وكبرياء.
يسجّل لطلال سلمان أنه كبير في أيام الكبار.
في “زمن السفير”، الذي ولدت فيه الجريدة وترعرعت حتى اشتدّ ساعدها، كنا نشكو من مثالب الوضع العربي، من أنظمة الظلم التي حكمت بالحديد والنار، أنظمة تخاذلت أمام اسرائيل ولم تنتصر إلا على الشعوب.
لكن “زمن السفير” هذا كان أيضاَ، بعكس هذه الأيام، زمن الكبار، وفيه كانت “السفير” بقيادة خيّالها البارع طلال سلمان لاعبا بارزا وحرّا، في المدى العربي بأسره. تندفع لنصرة كل قضية عربية، وكل حق عربي، تواجه حيث يجب أن تواجه، وتهادن حيث يسمح لها التزامها أن تهادن.
ولم يكن ذلك الزمن حكراً على الحكام والمتسلّطين، ورجال المخابرات، وأزلام الأنظمة والانتهازيين، بل كان أيضاَ زمن عرب كبار من نوع آخر، عمالقة الإعلام والفكر، والثقافة والإبداع، حملة مشاعل التنوير، الذين كافحوالتحرير الفكر، وإطلاق العقل العربي من عقاله. أنهم مناضلون صامدون في وجه التعصّب والظلام والتخلف والرجعية، منهم من بقي على قيد الحياة ومنهم من قضى شهيدا، وما بدّلوا تبديلا.
كان هؤلاء أصدقاء طلال سلمان وعُشَراؤه. وكانت “السفير” ظهيرا لهم، صفحاتها واحة لأفكارهم، يلجؤون إليها كلما أرادوا تنشّق هواء الحرية، وكلما أطبقت عليهم قيود الاضطهاد والإرهاب.
من باب السفير يدخلون إلى صفحات “السفير” ومساحاتها الحرّة، أو يلجون إلى صالون طلال سلمان، ملتقى المفكرين والمثقفين، ومقصد السياسيين، من كل مشرب ونوع. هناك، كلّ نخبوي يجد ما يسرّه أو ما يبحث عنه، فطلال سلمان رجال في رجل.
إنه المفكّر والمحلّل والثائر والحالم والناضج، الرصين الساخر والناقد اللاذع والأديب المرهفٌ والكاتب المبدع، إذا فقدت أثره “على الطريق” في الصفحة الأولى، ابحث عنه متنسّكا ومتخفّيا بين كتّاب الصفحة الثقافية.
أيها السيدات والسادة
في قلبي يتصارع شعوران، الواحد يناقض الآخر.
أحزن لأن “السفير” أقفلت في عزّ شبابها وفي مقتبل العطاء، وأقول يا ليتها بقيت، لكي تستمرّ على مرّ الأجيال شمعة مضيئة في هذا الظلام العربي الذي لا ينتهي.
ولا يلبث أن يتملكني إحساس مناقض، بأن “السفير” تجاوزت حدّ الحياة الذي يشبهها ويليق بها. أسأل نفسي ماذا تفعل “السفير” بعد أن انقضى”زمن السفير”؟.
كان ذلك الزمن زمن الحكومات العربية المفرطة في قسوتها، التي استخدمت الظلم وسيلة للحفاظ على السلطة. ولكنه كان أيضا زمن الهوية الوطنية والشعارات العربية والحكومات القويّة التي حافظت على الحدّ الأدنى من الوجود العربي.
كان زمنا بالغ القسوة والصعوبة، ولكنه يسمح لنا بالحلم، ولا يمنعنا من الأمل.
انقضى زمن “السفير” قبل سنوات من إقفالها. انقضى عندما حلّ الولاء المذهبي محلّ الانتماء القومي، والقيم القبلية بدل الفكرة الوطنية، والصراع الطائفي مكان الصراع مع اسرائيل. انقضى يوم أصبح الانتماء إلى الرجعية موضع فخر واعتزاز، والتنكّر للعصر فضيلة عند من يدّعون احتكار الفضيلة.
لا دور لـ”لسفير” ولا شغلٌ في زمن التشرذم والانقسام، زمن التعصّب والمذهبية.
هذه هي الأزمة الحقيقية التي رأيتها في عيون طلال سلمان.
سألته ذات مرّة: ماهي المشكلة التي تؤرقك، فأجاب بمزيج من اليأس والحزن: كيف يمكننا أن ننتج ونشتغل، الوضع العربي “شوفة عينك”، أمّا في لبنان فلم يعد هناك سياسة.
هذا ما قاله طلال سلمان، قبل أن يطفيء أنوار “السفير”، يحمل إحباط الدنيا على كتفيه، وينسحب ببطء على وقع نشيد حزين لسيّد درويش.
كلمة القيت في الحفل التكريمي لجريدة “السفير” الذي اقامته جمعية التخصص والتوجيه العلمي في 2017/3/23