لاقت دعوات التغيير الجذري، التي شيعتها في لبنان، في اواسط العشرينات من القرن الماضي، نخب وطنية ـ يسارية من متعلمي الفئات الوسطى منضوين في اطار ما كان يُسمى حينذاك حزب الشعب، رواجاً محدوداً في أوساط عوامها حيث تتجذر في بيئآتها الريفية قناعات راسخة إلى حدود الإيمـان بمـا توارثته من هويات الاقطاع الطائفي. وكانت عوام هذه النخب قد الفت آليات التكييف والتكيّف المُعزّزه لإندماجاتها الأهلية المحلية بفعل ما نشأت عليه من تدين وتعليم. واستطاعت القيادات الراعية لها أن تُواصل ادوارها في تعزيز الإنتماءات والولاءات المنغلقة على هويات دينية أو اتنية وفي التكيُّف مع ثقافة مهيمنة ترتبط بمصالح الانتداب الفرنسي والزعامات المتعاونة معه.
وتمثل الجنوح الثوري لدى البعض من تلك النخب، التي تربى بعضها قي بيوتات دينية عريقة، نزوعاً إلى القفز لتبني مقولات فلسفية غالباً ما يستعصي فهمها وتفهيمها لأنها مقولات برزت في سجالات حول النتائج المُحتملة لتحولات اليسار الراديكالي في المجتمعات الأوروبية المتفاوته التقدم في الثورة الصناعية، وفي سجالات مجلس الأممية الثانية في اوروبا تعلقت بسياقات النضال والطروحات التاريخية للتغيير حيث توقفت غالبية التيارات ألآشتراكية الديموقراطية في المجلس عند ضرورة عدم القفز فوق مراحله. و هي طروحات انتقدها ماركس لبقائها في الآفاق الواقعية لمستويات الصراعات الطبقية غير المقتصرة على البروليتاريا. وتجسد الإبتعاد عن الماركسية في ترسخ الأحزاب اليسارية، التي حملت وما زال أغلبها يحمل، في الراسماليات الصناعية المتقدمة في اوروبا الغربية، تسمية الحزب الإشتراكي الديموقراطي. وفي المواجهة مع هذه الاشتراكية اندفع لينين في ظل ما أسسه من أممية ثالثة التي انقصل بها وقادها إلى التحول عن تسمية الحزب الاشتراكي الديموقراطي إلى تسمية الحزب الشيوعي. ولم يمنعه ذلك، غداة ثورة أكتوبر عام 1922 من اعتماد طروحات الأممية الثانية في مواجهة اشتداد المحاصرات الامبريالية وتبرير اعتماد ما سُمي “السياسة الاقتصادية الجديدة NEP” خلال عشرينات القرن العشرين وادخال بعض التعديلات العلئدة لاقتصاد السوق في الاقتصاد السوفياتي تخفيفاً للضغوط على اقتصاد الثورة البولشيفية.
ولم تتكرر مرونة التفكير اللينيني بعد وفاته لدى القيادة الستالينية التي خلفته في إدارة المجتمع الإنتقالي والاقتصاد المُدولن قي روسيا حيث فُرضت مفاهيم بيروقراطية يقودها الحزب بصرامة مستبدة. وفُرض هذا الفهم للتحول الاشتراكي على فهم التحول الذي يجب ان تتبناه الأحزاب الشيوعية الفقيرة في المجتمعات ما قبل الصناعة والراسمالية ومنها الحزب الشيوعي اللبناني.
واعتُمدت في تقليد الانتقال الستاليني دولنة الاقتصاد وإدارته في الاشتراكيات العربية مترافقة بتكثيف لتعبئة الشبيبة والعمل على ادخال الوعي الثوري من خلال التعليم وما سُمي بالمنظمات الشعبية والديموقراطية. تعبئة يشتد تثويرها التوتاليتاري فتصرف الاهتمام عن تفاقم أزمات اقتصاداتها وتزايد مديونياتها. وهذا ما أجبر الاشتراكيات العربية المؤدلجة على العودة الى اقتصاد السوق والخروج عن منهج التخطيط المركزي.
مخاطر الوعي الثوري
ويُلاحظ أن تدني الوعي بحركة مجتمعاتنا الفقيرة وتحولاتها الواقعية زاد في لبنان والبلاد العربية من استسهال الجنوح والتعالي لدى النخب الشيوعية الى ما يتوافق ونهج الدولنة الستاليني والقفز فوق واقعية قدراتها وفوق مستوى وعي الناس لمصالحها ومستوى أحاسيسها بضرورة هذا الوعي. وبضرورة تجسده في مفاهيم ومناهج تفكير مُلائمة ظلت تشكل في أوروبا موضوعات للسجال والاجتهاد على مدار قرنين في الفلسفة وعلوم السياسة والاقتصاد والاجتماع وبناء الدولة المدنية. وقي المقابل جاء اعتماد المفاهيم ومناهج التفكير في مجتمعاتنا يغلب عليه نزوع النخب الراديكالية الى الشعبوية والإرادوية والمبالغة في تبسيط النظرة الاقتصادوية التي تحصر الصراع الطبقي بين طبقتين، وتحصر تاريخ هذا الصراع بخمس مراحل تبدأ بالمشاعية وتنتهي بالشيوعية أو بالمجتمع المثالي الذي لا ضرورة للدولة فيه. تاريخ يشجع المتعلمين المتمركسين إلى التجرؤ أحياناً، وبوعي، على المبادرة لتحدي المؤمنين في تدينهم وإلى افتعال السجال حول الإلحاد. وهذا ما دفع ويدفع المتعلمين من أغرار الشيوعيين أحياناً كثيرة إلى تقريض ديانات وتدينات المؤمنين ولا يدركون أن الدين هو المحرك الأول لأخلاقهم وكرامتهم ورجاؤهم وأن الجذور الاجتماعية للدين هي في بحث الخائفين عن أمان غالباً ما لا يرونه خارج الدين وإن كان هناك بعض من رجال الدين المجتهدين لم يروا فرقاً بين الفكر الاشتراكي وبين أخلاق المساواة التي تسكن إليها ارواح المؤمنين، إلاّ أن أي تبذُّل في تقريض التدين لا يستفيد منه إلاّ تحالف أدعياء الإيمان في السلطة غير العادلة. وهو تبذُّل يُكثر من الارتياب الآهلي في فهم واخلاق وسمعة المناضل الحزبي ليس الا لأن التسمية الشيوعية للحزب ظلت تعني، منذ اكثر من قرن وكلما زاد الافقار، الحاداً وان كان لا يُخفف من تظلم المناضل الشيوعي سوى تقديرات عابرة لثقافته من قلة حوله.
ولم يُدرك الكثير من المثقفين المتمركسين المجاهرين بخروجهم عن الدين والإيمان أن ماركس وانجلز لم يدخلوا إلى أعماق الديانة الإسلامية وقد قصرا تنظيرهما لدورها، كما باقي الديانات، في تغييب اولوية التفسير بتحديدية العامل الاقتصادي للوضع الاجتماعي وقد ربطا بين تشكل الرأسمالية وظهور البروتستانتية في أوروبا. وهنا يجدر القول بأن اعتماد المادية التاريخية في تفسير تحولات المجتمعات، والتي شكلت الانجاز التاريخي الأكبر في الفلسفة الاجتماعية، ليس من الضروري ولا من الفطنة ان يُقاربها غير الفلاسفة من المناضلين المتعلمين المتطفلين في تفسير الخلق وظهور الديانات.
كما ويجدر التذكير هنا بأن التوازنات الخارجية، التي سبق وكان لها الغلبة في التصميم الطائفي للدولة اللبنانية، حكمت وما زالت تغلِّب المناشـﺊ الطائفية للمعارضات الداخلية على المناشـﺊ الاجتماعية المدنية المُعانية من الافقار والتهميش. وزاد في هذه الغلبة للطابع الطائفي انصياع الحزب الشيوعي اللبناني للنموذج اللينيني والتسمية الشيوعية اللذين جاء بهما مندوبو كومنترن الأممية الثالثة من أوروبا عبر الشيوعيين اليهود في فلسطين. وانعكست ظروف هذا النشوء في التكوين المتعثّر للمعارضة اللبنانية الراديكالية غير الطائفية. وادت قفزاتها النظرية الايديولوجية غير المرتبطة بتشكل وتحرك المجتمع اللبناني الى استهوانها انتهاج راديكالية أوروبية شمالية رأسمالية صناعية متلائمة مع تشكل وتحرك مجتمعاتها. وأدى هذا الانتهاج إلى تبعية على صعيد التنظير الثوري الذي برزت أضرار خطابه في محاصرة توسع الحزب الشيوعي منذ 90 عاماً وفي ضمور قواعده بالتواكب مع ضمور الأحزاب الشيوعية الأوروبية والسوفياتية التي سبق واعتمدت في تحديد مناهجها الأفق الفلسفي المفترض لتاريخية الصراع الطبقي في أوروبا ومثلها ام ترتبط شيوعية الحزب اللبناني بالحدود المعقولة تاريخياً لقدرات التشكيلة السياسية ـ الاجتماعية وبأنواع الصراعات التي تجري داخل اقتصادها الريعي.
وهنا نلفت النظر إلى أننا لا نرى ضرورة التخلي عن التسمية الشيوعية للحزب اللبناني تقليداً لما يحصل في الأحزاب الشيوعية الأوروبية لا بل نرى ضرورة العودة إلى فهم أكثر تاريخانية لمستويات النمو الثقافي والسياسي للمناطق والجماعات اللبنانية وإكثر تزخيماً للنضالات الديموقراطية المطلبية والوطنية التي تمرس الكثير من الشيوعيين اللبنانيين بقيادتها والتي تصبح بالتأكيد أكثر جاذبية في طروحات حزب جديد بطروحات جديدة وباسم جديد يعبر عن تطلعات متناسبة مع مستويات نمو اقتصاده ووعي الفئات الشعبية في مجتمعنا. ويعبر في تسميات جديدة عن تطلعات الى الاشتراكية والديموقراطية والمدنية والعلمانية والتقدم وما الى ذلك مما سبق ان “تزينت” بها اسماء احزاب لبنانية طائفية زبائنية تمرست في استنزاف قيم المنتحلة في تسمياتها وما زالت. تطلعات يتم التشارك النضالي من اجلها مع تنظيمات منفتحة على الحوار والتطور الديموفراطي واقل ارتباطا بالهويات والأولويات الدينية والقومية. إن التمسك بالتسمية الشيوعية المنقولة من قيادة الاممية الثالثة في الاتحاد السوفياتي الى لبنان مع مضامينها الإلحادية وفرت للسلطات الحكومية والدينية والآهلية العصبوية في لبنان ذرائع الاسترابة بما يضمر الشيوعيون وحتى بما يُعلنون فيما بينهم. استرابة لا تُقلل من تشكك العوام بحراك الشيوعيين المناضلين فعلاً في سبيل تقدم بيئآتهم التي لم يسبق أن عرفت اجرأ منهم نضالاُ في سبيل تقدمها واكثر اهتماما بأوضاعها المحلية. وقد انحسرت هذه النضالات بعد الانهيار السوفياتي ومع اصرار قادة الحزب الشيوعي اللبناني، ولا سيما في المناطق، على التمسك بهذه التسمية ومضامينها الفلسفية التي يعجز الكثير منهم عن تفهيمها فيختزلونها بصياغات مبسطة صالحة للتعميم لفهم تشكيلات وتحولات المجتمعات أياً كانت خصائص اوضاعها. وقد زاد تراجع الحزب مع تحول التحزب لدى قادته العليا والوسطى احيانا إلى إرث عائلي مقترن بكرامات شخصيات قيادية ـ ثقافية مشهود لحضورها الاجتماعي.