لن يُفسد علينا فرحتنا بانتصار الثورة الشعبية العظيمة في السودان أن تبادر بعض الدول العربية المعادية للثورات، والتي تتاجر بالدين الحنيف تجارتها بالنفط والغاز، إلى ادعاء “احتضانها” هذا التغيير الذي سيكون له ما بعده في الاقطار العربية جميعاً.
ذلك أن شعب السودان المجوع والمضطهد والمقموع منذ دهور قد صمد في الشارع لشهور طويلة، بعد الانقلاب العسكري الذي خلع الماريشال حسن البشير واودعه السجن…
..ثم صمد هذا الشعب الجبار في وجه محاولات الخداع والمكر التي استخدمت لإخراجه من الشارع، مصراً على مطلبه بعودة بلاده إلى الحياة الطبيعية، وعودة العسكر إلى ثكناتهم، وتحديد موعد للانتخابات النيابية بحيث يتولى المجلس المنتخب اختيار رئيس للجمهورية، وتشكيل حكومة تحوز ثقته.
ولقد سارعت دولة الامارات ومعها السعودية (مملكة ورثة مسيلمة الكذاب) إلى محاولة احتواء الانتفاضة المجيدة لشعب السودان، عبر الاعتراف بالقيادة العسكرية للانقلاب ضد البشير، ودفع سيل من “الشرهات” ووعود بالمنح والمساعدات والقروض الميسرة، ودعوة “حميدتي” وغيره من ضباط الانقلاب إلى القمم الثلاث التي عُقدت في مكة المكرمة..
…فلما تجددت الانتفاضة الشعبية بعد تعرض القوات المسلحة للمتظاهرين في مدينة الابيض، أخذ المجلس العسكري يتراجع مفتسحاً المجال امام الوساطة الاثيوبية والافريقية بقصد الوصول إلى حل سياسي يحقق مطامح هذا الشعب الذي يعيش الفقر في بلاد النيلين (الازرق والابيض).
على أن السعودية والامارات لم تيأسا، بعد، من الهيمنة على قرار “السودان الجديد”، فيما يبدو، فقررتا المضي في مغامرة شراء “السودان الجديد” عبر تقديم مساعدات مجزية كقرض يمكن تحويله إلى منحة، ثم المسارعة إلى الاعتراف بالاتفاق الذي تم توقيعه بين جبهة المعارضة (ومن ضمنها الحزب الشيوعي) وقادة الانقلاب العسكري ممثلين بـ”حميدتي”…ولقد لاقتهما قاهرة السيسي ودول عربية أخرى، خليجية اساساً، في محاولة جديدة لتطويق اندفاعة الانقلاب نحو أن يصير ثورة تغير الواقع البائس الذي فُرض على السودان طوال عقود.
هذا يعني أن محاولة تطويق الانتفاضة الشعبية في السودان مستمرة.
لكن السودانيين اصحاب تجربة غنية، سواء مع العسكر (باستثناء سوار الذهب الذي رفض الرئاسة وقدم استقالته التي فاجأت الجميع، وأعاد السلطة إلى صاحبها، أي الشعب..) او مع احزاب السلطة، وعلى هذا فمن الصعب أن تجوز عليهم خديعة جديدة، فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.
ومؤكد أن محاولات محاصرة الانتفاضة الجديدة ستتوالى، سواء بالذهب ام بالضغط السياسي والاقتصادي من دول الجوار العربي أو من دول الهيمنة بالقيادة الاميركية..
..ويمكن أن يتم الحصار بالذهب وليس بالعسكر،
كذلك يمكن أن تتم محاولات التفجير عبر الايقاع بالجميع، العسكر والمعارضة بفصائلها المختلفة،
ويمكن ان تلعب دول النفط والغاز دوراً تخريبياً خطيراً، عبر شراء ولاءات بعض القبائل او بعض العسكر، للخروج على الاتفاق، او تأجيل التنفيذ بحيث يتم التحريض على العسكر او شق الجيش عبر تبني بعض الضباط الطامعين بالوصول إلى قمة السلطة.. وخير الله عند اهل النفط والغاز كثير، ومهما بذلوا من مال لإبقاء السودان في حظيرة الولاء لهم، لا قيمة له أمام كسب السودان وابقائه تحت وصايتهم.. خصوصاً وان السودان هو البوابة الخلفية لمصر، فاذا ما استقر الحكم الجديد فيه (بصيغته العتيدة المستندة إلى الاتفاق بين الجيش وقوى التغيير..) يتعاظم الخوف من العدوى، خصوصاً وان ليبيا الحالية تلعب دور “الجار المؤذي” الذي يضطر حاكم القاهرة إلى التدخل متحملاً أكلافاً باهظة…
ثم أن مصادفة التلاقي على ارض الثورة على النظام العسكري بين ثوار السودان وثوار الجزائر الذين امضوا حتى اليوم شهوراً طويلة من التظاهر والاعتصام طلباً للتغيير، وإعادة الروح إلى بلاد المليون شهيد وتمكينها من بناء مستقبلها الافضل والعودة إلى لعب دورها المؤثر في المحيطين العربي والافريقي..
لقد خمدت حركة الاعتراض الشعبي، ولو بالثورة، في معظم الارض العربية، وحلت محلها الفتن والحروب الاهلية بعد توفر الحاضنة الاميركية ـ الاسرائيلية (كما سوريا)، او تصدع المجتمع واستنهاض القبائلية وخلافاتها “التاريخية” على الماء والكلأ، ثم على النفط والسلطة، كما في ليبيا المفتوحة الآن امام تدخل “الجميع”: من تركيا حتى قطر، ومن الغرب الاميركي حتى.. اسرائيل التي لا تفوت فرصة لبث الفتن في الوطن العربي الا واستغلها.
وها أن سوريا غارقة في دمها بسبب أَشكال التدخل بالمال والسلاح والتوغل التركي في ارضها والاعتداءات الاسرائيلية التي تكاد تكون يومية، والتي تشارك اردوغان في تخريب هذا البلد العريق والذي طالما لعب اهله دور الطليعة في الثورة ضد الاجنبي وفي التقدم المدني وفي التقدم ليكونوا دعاة الوحدة العربية وأول ما اندفع اليها تحت راية جمال عبد الناصر..
..والعراق يعيش مناخاً من الحرب الاهلية “بأفضال” إرث صدام حسين و”انجازات” الاحتلال الاميركي وأبرزها إشعال نار الفتنة بين السنة والشيعة، وبين العرب والكرد.. وبين دجلة والفرات!
إن المواطن العربي يتطلع الآن إلى الجزائر والسودان آملاً أن ينبثق منهما فجر الغد الجديد الذي طال انتظاره.
وَلِلحُرِّيَّةِ الحَمراءِ بابٌ… بِكُلِّ يَدٍ مُضَرَّجَةٍ يُدَقُّ
تنشر بالتزامن مع السفير العربي