بين الصحافة والسياسة والثقافة خيط رفيع. قد يختلف البعض في ترتيب أولوية هذا إلى ذاك، لكن الأرجح، من وجهة نظر شخصية، أن السياسة هي الأصل، فإذا حلّقت تزدهر الصحافة والثقافة وإذا هبطت يهبطان معها.
تسري هذه المعادلة على قلة من عواصمنا العربية سواء في الزمن البعيد أو القريب، لكن تبقى للصحافة اللبنانية نكهتها، لا بل لها فضلها على الصحافة العربية بأسرها. لنأخذ نموذج صحيفتي السفير والنهار.
ولدت النهار في العام 1933، أما السفير فقد صدرت في العام 1974. واحد وأربعون سنة هي المسافة الزمنية الفاصلة بين الولادتين والتجربتين، لكن منذ صدور العدد الأول للسفير في 26 آذار/ مارس 1974، أزاحت غيرها من الصحف البيروتية وراحت تنافس النهار على المرتبة الأولى وظلت كذلك حتى اليوم الأخير من عمرها الذي طابق أيضاً الـ 42 سنة (مع صدور العدد الأخير في 3 كانون الثاني/ يناير 2017).
في إحدى أيام بيروت قبل زمن جائحة الكورونا، سمعت من الأستاذ طلال سلمان، ناشر جريدة السفير ورئيس تحريرها، وهو يحكي عن أهمية المنافسة في عالم الصحافة. شرح كيف كان يحرص هو والأستاذ غسان تويني ناشر ورئيس تحرير جريدة النهار المنافسة لصحيفته على التواصل المستمر، منذ اليوم الأول لصدور السفير، برغم أن الصحيفتين كانتا تقفان على ضفاف متقابلة المسار والمضمون والاتجاه، لكأن السفير إختارت أن تولد في المتراس عشية الحرب الأهلية اللبنانية، فتتحول إلى منبر لليسار اللبناني والفلسطيني والعربي في مواجهة الجريدة المنافسة لها والناطقة بلسان اليمين اللبناني بإمتداداته الخارجية.
يروي طلال سلمان كيف حدّدت له دوائر الديوان السعودي موعدا لإجراء مقابلة مع الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز(كان ولياً للعهد) على هامش زيارته الى العاصمة اللبنانية في نهاية آذار/ مارس من العام 2002 للمشاركة في قمة بيروت العربية. وصل طلال سلمان إلى قصر قريطم الشهير، حيث إختار الرئيس الشهيد رفيق الحريري أن يكون مقر إقامة ضيفه السعودي، وهناك وجد زميله وصديقه غسان تويني، والهدف أيضاً إجراء مقابلة مع عبدالله بن عبد العزيز.
عندما أنجز كل واحد منهما مقابلته، إتفقا على تنسيق موعد النشر في اليوم التالي على صدر الصفحة الأولى لكلا الصحيفتين البيروتيتين العريقتين، ظناً منهما أن نجومية الصحافة مجتمعة أهم من النجومية منفردة. يقول طلال سلمان متحسراً: “لا سياسة يعني لا صحافة. الساحة اليوم خلت من الصحف مع بقاء الساحة الإعلامية مشرّعة فقط للنجوم”، قبل أن يستطرد متسائلاً “من يصنع هؤلاء النجوم”؟
السؤال نفسه طرحه غسان تويني على طلال سلمان في أول لقاء جمعهما في مطعم الإكسبرس قبالة النهار في شارع الحمراء بحضور “صديق مشترك” للإثنين. لم يكن قد مضى على صدور السفير سوى أقل من شهر واحد. سأل تويني زميله سلمان: ما هو سر هذا الرواج الكبير للسفير منذ عددها الأول.. ما هو سر نجومية السفير؟
لم ينتظر تويني، وقال بلغة المكابرة، وقتذاك، “لعلها يا طلال قصة الـ 25 قرشاً”، أي السعر الذي بِيعت به الصحيفة يوم صدورها (ربع ليرة)، وكان هذا الرقم من بين عناصر عديدة إستخدمتها السفير للترويج لنفسها، إضافة إلى جملتها الشهيرة “صوت الذين لا صوت لهم” و”جريدة لبنان في الوطن العربي وجريدة الوطن العربي في لبنان”.
مع الوقت، إنتظمت العلاقة بين السفير والنهار، وصار التنافس بينهما عبارة عن محاولة لأن يكمل كل واحد منهما الآخر. ويروي زملاء كثر في هاتين الصحيفتين أنهما وعلى مدى عقود من الزمن كانوا يستهلون نهارهم بقراءة الجريدة المنافسة قبل جريدتهم. هكذا يبدأ الصباح ولا ينطوي إلا على منافسة محمومة حتى فجر اليوم التالي، في إطار سباق الصحيفتين على السبق الصحفي، السياسي والإقتصادي والثقافي والرياضي ليتصدر صفحتهما الأولى..
لم تقتصر يوماً صناعة النجوم على علاقات التنسيق بين أهل الصحف أنفسهم. بل اتصلت بالعلاقة بين الصحافي والمسؤولين في الدولة. عندها تصبح النجومية أكثر وهجاً وبريقاً.
في عالمنا العربي، لم تحظ علاقة بين صحافي ورئيس دولة على نجومية كتلك التي كانت بين الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل. علاقة حظيت بالنجومية لأسباب عديدة، منها ومن دون شك المرحلة التي اتسمت بها المنطقة العربية في ظل الحرب الباردة بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والشرق بقيادة الاتحاد السوفيتي وتداعيات الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين في العام 1948، إلا أن لهذه النجومية وجه آخر.
يروي الصحافي المصري مصطفى أمين ناشر صحيفة أخبار اليوم القاهرية الوجه الآخر لهذه العلاقة المميزة. يحكي حين راح يشتكى إلى عبد الناصر تفضيله هيكل على مجموعة كبيرة من الصحفيين وبينهم هو. كان مصطفى أمين مُحقاً في شكواه. فقد أرهق هيكل بعلاقته المميزة تلك جيلاً كاملاً كان قد سبقه في مهنة المتاعب، وأيضاً زملاء أتوا من بعده. يجب ألا ننسى أن بلداً كبيراً بالحجم والكفاءات كجمهورية مصر، كان قادرا على انتاج نماذج عديدة. أجاب عبد الناصر بالقول “انت يا مصطفى تسألني عن آخر الأخبار، أما محمد حسنين هيكل فيأتيني بأخر الأخبار”. يبدو أن ما قصده عبد الناصر أن الصحافي كان يطمع للفوز بخبر من الرئيس، بينما كان رئيس مصر يبحث عن رأي ومعلومة يأتي بهما الصحافي إليه!
وهذه “الرمية” من عبد الناصر، إن دلت على شيء، إنما على سر العلاقة التبادلية بين الصحافي والسياسي. علاقة ندية شرط أن يحترم الصحافي نفسه ومصادره ويتقن حدود الإقتراب والإبتعاد من السياسيين وعوالمهم، لأن المسألة يجب أن تتجاوز مجرد النجومية والفوز بخبر كيفما كان ولو على حساب كرامة الصحافي.
الحديث عن النجومية في الصحافة العربية يأخذنا الى نجوم من الصحافة الغربية. لعل أول صحافي أمريكي حصل على النجومية في تاريخ الولايات المتحدة الحديث هو والتر ليبمان (1889 ـ 1974). الطفل اليهودي من أصل ألماني الذي ولد لعائلة ميسورة صنع النجومية حين نشر أول كتاب له بعنوان “مقدمة السياسة”. حينها، حاز كتاب ليبمان على شهرة واسعة حتى أن الرئيس الأمريكي ثيودور روزفلت وصف ليبمان بـ”عبقري الجيل الجديد”.
من بصماته في أدبيات السياسة الأمريكية التي غدت عالمية استحداث تعبير “الحرب الباردة” في كتابه الذي حمل العنوان ذاته والذي نشر العام 1947. وضمنه فصلاً كاملاً يبدي فيه معارضته سياسة “الاحتواء” للاتحاد السوفيتي. صنع ليبمان علاقات مميزة مع الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض. وحين سئل في خضم مسيرته اللامعة عن أزمة الديموقراطية الأمريكية أجاب “الأزمة في جوهرها.. أزمة صحافة”.
غير أن مراسل جريدة نيويورك تايمز ومدير مكتبها في واشنطن آنذاك جيمس روستون كان له رأي مغاير عن ليبمان في الصحافة ونجوميتها. فقد تمتع الرجل بمزايا شخصية أهّلته لأن يكون أقوى صحافي في واشنطن في مطلع سبعينيات القرن الماضي. أشاد به كل من كتب عنه، بأخلاقه وقدراته الكبيرة على العمل من أجل الحصول على السبق والمعلومة الدقيقة. وحين سئل روستون عن سبب كتاباته المؤيدة لسياسات إدارات البيت الأبيض المتعاقبة أجاب “إذا كنت صحافياً تسلك نهج الانتقاد، سيأتي يوم يرفض المسؤول الاجتماع بك. عندها ستجد نفسك وحيداً مع أرائك الشخصية. وأنا لا أحب ذلك لأن أرائي الشخصية ليست جيدة”!
لا سياق أو مناسبة لهذا الكلام إلا من باب العلاقة بين النجومية والصحافة والسياسة. علاقة دقيقة تقاس بميزان المعرفة لا العلاقات العامة. السبق الصحافي لا يصنع نجومية مستدامة. بل المنافسة الصحافية هي من تصنع السبق المؤدي الى النجومية. على الأقل هذا ما تعلمناه من نجوم صنعوا المجد الصحافي بعرق الجبين. وكما يقال في المثال الدارج “النجوم تحتاج الى الليل”، لا الى الضوء. لربما هذا ما التقطه غسان تويني وطلال سلمان. وما صنعه محمد حسنين هيكل ووالتر ليبمان، وتصالح مع المبدأ ذاته جيمس روستون.
هل علينا أن نستغرب في يومنا هذا لماذا تموت الصحافة العربية الورقية لمصلحة منصات ووسائل تواصل تحوّلت إلى مكب للأخبار الصحيحة والزائفة في آن معاً؟ هذا الواقع ينتج نجوماً وليس صحافة وصحافيين ولا سياسة وسياسيين، على حد تعبير طلال سلمان.
ينشر بالتزامن مع موقع post180