يلزم للانسان حياة كاملة كي يشعر بكافة الأحاسيس التي تمر على السوري في لحظة واحدة هذه الأيام.
يختلط الخوف بالرجاء بالانتظار بالتوجس بالأمل بالحقد بالتسامح بالمحبة بالكراهية بالاحلام بالكوابيس. يحب السوري الناس كلها والأشياء كلها ثم يكره كل ذلك بمقدار ما أحب. فجأة يصبح المستقبل على قاب لحظة، ثم يسود الشك لحظة أخرى تبدو كالدهر. لا أحد يعرف والكل يعرف، كلنا يترقب الفجر، وكلنا زرقاء اليمامة يخشى أن يتنبأ أكثر مما يجب كي لا تُفقأ عينه.
ليس من أحد لم تعد إليه صور وذكريات ربيع العام ٢٠١١، وليس من أحد لم تعد إليه ليالي الأرق وترقب الأخبار الطائشة وتحليلات اللحظة. محظوظ من لم يستسلم لشائعة، ومحظوظ من لم يجرفه تيار قبل أن يأخذه تيارٌ آخر.
الشعب هناك متعبٌ حتى إن كهرباؤه ورغيف خبزه تحولت إلى وعودٍ ثورية. والشعب متعبٌ حتى أنه يقبل بما رفضه الأمس القريب، لقد تحمل الكثير وعانى الكثير، وقاوم كثيراً كي يستمر بمجرد الحياة، لكنه متعبٌ حتى أنه سريع النسيان سريع التصديق. تشرد في البلاد وتشرد داخل وطنه، وعانى من الغربتين ومن ظلم الغريب وذوي القربى. طوبى لمن لم يصبه الأسى وطوبى لمن لم يعرف الحيرة والشك والتردد.
هل لاحظنا أن كم المشاعر الآنية يلغي العقل أو يضعه في ركن ما ريثما تتم استشارته ببرودٍ لا يملكه اليوم إلا من لم يكن معنياً بكل هذا؟
لا شيء يلغي الأسئلة ولا مسوغ لتأجيلها. سوريا تعيش التاريخ اليوم لحظة بلحظة، وما يحصل الآن سيرسم صورة الغد. وإن لم نكن فاعلين فيما يجري فلنطرح الأسئلة وإن تكن مزعجة، هذا حق.
هل يمكن ملاحظة مثلاً أن عتاة ثوار الربيع العربي قد توكلوا و أوكلوا ثورتهم إلى الجولاني الذي لُمِعِتْ صورته ببراعة هوليودية وأن القائمين على المناطق “المحررة” لم ينجحوا خلال سنوات من غياب النظام عن مناطقهم، بتطوير نظام حكم تعددي قابل للحياة وأننا نكتفي اليوم بتطميناتهم وباقتراح مطران كمحافظ لحلب وأنهم زينوا شجرة الميلاد لطمئنة الأقليات؟ هل هناك مايوحي بأننا استفدنا من السنوات الماضية لإيجاد نموذج قابل لقيادة مجتمع شديد التعقيد كالمجتمع السوري؟ ثم هل هناك تصور مُعلنْ لليوم التالي خارج شعار اسقاط النظام؟ وهل أدت الأعوام الثلاثة عشر التي انقضت على ربيع الـ٢٠١١ إلى إيجاد صيغة لسوريا المستقبل؟
لا أحد ينكر على الناس فرحتها بتحرير سجين ولا بعودة نازح إلى داره ولا باقتراب حلمها أن تتخلص من نظام طال ظلمه وقهره للناس. هل هناك من لم يتأثر لمناظر خروج معتقلين دون محاكمة من سجون القهر والظلم؟
لكن هل هناك ثمة مجال للقول دون اتهامات خيانة وعمالة أنه لامجال لبناء سوريا جديدة على أنقاض فلسطين ولا على أنقاض لبنان وهما لا يزالان ينزفان، وأن اللعبة الإقليمية الدولية أكبر من أن نكتفي بسذاجة الفرحة بتحرير حلب وحماة وأن لها ثمن لا يعرف أحد ما هو طالما أننا نعيش بين غموضين: غموض السلطة وغموض الجولاني؟ هل يجوز لنا التساؤل عن الأدوار الإقليمية والدولية وعن مخاطر إحلال محتلين جدد مكان المحتلين القدامى؟
في العام ٢٠١١ كانت هناك حركة شعبية عارمة وكان لها رموزها الفكرية على علاتهم، أين هم اليوم؟ هل نكتفي بفورة الحماس واعتبار أن هيئة تحرير الشام قد تغيرت وغيرت مفاهيمها؟
ليس هناك من سوري لم يَختبر السلطة القائمة ويعرف أصغر مواطن عيوبها وفسادها، لكنه أيضاً يعرف سُبل التعامل معها. لكن ماذا نعرف عن هيئة تحرير الشام / جبهة النصرة؟ هل يجوز السؤال؟
بالمقابل، وعلى طريقة فيصل القاسم، هل لاحظنا أن النظام ينتقل من فشل إلى آخر وأنه عاجز عن حل أصغر مشاكل الناس، وأنه يقيدهم كل يومٍ بقيدٍ جديد؟ هل لاحظنا انكفاء السلطة وغيابها في لحظات حربي غزة ولبنان؟ كيف انهار جيشها بهذه الطريقة وكيف سُلِّمَتْ المدن؟ ما الذي تعرفه السلطة ولا نعرفه؟
من الواضح أنها أيام مفصلية في تاريخنا وأنه يلزمنا الكثير من الحكمة والتعقل لتجنب مقتلة جديدة لن تتحملها أية سوريا كانت، ونكرر أن الحل لن يكون إلا سياسياً.
قلبي، ككل السوريين، مع هذا التراب كله من عفرين إلى الجولان إلى إدلب وحماة ومن القامشلي إلى الحسكة ،ومن القرداحة واللواء السليب إلى السويداء ودرعا. من الناس ومع الناس كلهم، معارضون وموالون، كلنا سوريا وكلنا مهدد وكلنا مشروع مستقبل أو مشروع انهيار الأرض والجغرافيا وهي اليوم مهددة بالتقسيم أكثر من أي وقت مضى. والسوريون بكل أطيافهم مطالبون بأن يكونوا أمناء على اللحظة التي نعيشها والتي تحمل الاحتمالات كلها.