قال وهو يصف لي حفل تخرّج كان ابنه بين الأوائل فيه:
ما أروع البدايات، خصوصا إذا ما تزامنت خارج المصادفة القدرية لنهاية القرن وبداية الألفية الثالثة للتقويم الميلادي، مع الإشراقة الباهرة لعالم جديد يعيد بناءه الإنسان، بالتفوق على الذات عبر الثورة العلمية الشاملة لمختلف وجوه الحياة، ولمختلف جوانب هذا الكوكب من أعماق البحار الى أعالي الفضاء حيث بزغ فجر الإمكان للسياحة وربما الإقامة فوق..
أضاف كمن يحدث نفسه: من حقنا أن نغبط أبناءنا، لأنهم سيرون بعيونهم، وسيلمسون بأيديهم، الأحلام البهية التي طالما دغدغت مخيلتنا عبر الأساطير الموروثة التي كانت تسرد حكايات لنوم هادئ للأطفال، أو عبر قصص الخيال العلمي التي ترسم لتنشيط القدرة على الابتكار واختراق حدود الممكن.
إنهم مخلوقون لعصر آخر مختلف جدا عن الذي عشناه، وهذه ميزة خطيرة لهم علينا، خصوصا أنها قد تضاعف من صعوبة الحوار بيننا إذ لن يكون بين جيلين في عالم واحد بل بين عالمين يختلف واحدهما عن الآخر، قيماً ومفاهيم وثوابت يقين وركائز تفكير، اختلافا عظيما لا تحله المجاملة أو احترام السن.
لكأنما ستنقلب الآية: فيصيرون، وهم الأصغر سناً، الأعرف والأعلم من آبائهم، يرجعون إليهم ليفهموا، ويطلبون منهم أن يرشدوهم إلى طريق المعرفة التي دهمتهم وقد تجاوزوا سن المواكبة والتوغل داخل هذه العلب السحرية (الكومبيوتر) التي تختزن كنوز إبداعات العقل الإنساني واكتشافاته الحديثة التي لا تكف عن التوالد يوميا في المجالات كافة بحيث تأتيك بأسرار العالم المتصاغر الآن فتستطيع أن ترى أدق دواخله وليس صورته الخارجية فحسب.
قلت: لعلنا نشفق عليهم أكثر مما نحسدهم لخطورة هذا التحدي..
قال: بل لعلنا نخاف عليهم، ونشفق على أنفسنا..
قلت: المخاوف كثيرة، في عصرنا، فأيها تقصد؟!
قال: سأكتفي بثلاثة أسباب للخوف، الأول أن يأخذهم هذا العالم الجديد إليه بعيدا عن وطنهم، ثم يشدهم فلا يعودون، وليس ضروريا أن يشتري عقولهم بالمال، فيضمها إلى كنوز العقول المهاجرة التي جمعها من أربع رياح الأرض وأخذ ينتفع بقدراتها ويزيد من تفوقه لينفرد بالهيمنة، بل لعله قد يستميلهم بإغراء المجال المفتوح للبحث العلمي والإبداع فضلاً عن الانتاج المجزي.
فالمفارقة الموجعة الآن أن البلدان النامية التي تحتاج أول ما تحتاج وأكثر ما تحتاج، الى العقول والأدمغة، تخسر أول ما تخسر الكثير من عقولها الشابة ومن أدمغتها الفتية، بينما تزداد الدول المتقدمة الغنية بالعقول غنى على غناها بالعقول والكفاءات الشابة الآتية بطلب تطوير معارفها وامتحان علومها بالتجارب المكلفة في معاهد الأبحاث الحسنة التجهيز أو في مواقع الانتاج الصناعي الكثيف.
أما السبب الثاني للخوف فهو أن تعز عليهم فرصة التحصيل العالي في المجال الذي يرغبون فيه فيلجأوا إلى بدائل توفر لهم الأمان الاقتصادي بدلاً من متابعة السعي وراء طموحهم لتحقيقه.. فقد يصير »المعاش« أو »الدخل الثابت« أهم من التحصيل العلمي إن هو لم يكن مرتبطا بفرصة العمل.
إن جامعاتنا تقذف إلى سوق العمل، بل سوق البطالة بالأحرى، الآلاف من الخريجين كل عام، وهم في الغالب الأعم لم يختاروا تخصصاتهم بما يتناسب مع استعدادهم بل وفق ما هو متيسر ومتاح من الأقساط والأماكن، أو انهم عجزوا لأسباب مادية عن الوصول إلى حيث يريدون فقبلوا أول فرصة عمل على أمل أن يعودوا إلى المتابعة بعد تأمين الاستقرار.. ونادرا ما تيسرت تلك العودة.
وفي غياب أي تخطيط، وأي إشراف جدي، وأي تنسيق بين الجامعات، ودائما تحت لافتة الحرص على حرية التعليم أو فوضاه، لا فرق، فإن العلاقة معدومة بين التخصصات وبين سوق العمل، وإنشاء الجامعات (التي باتت هي الأخرى تستند إلى القاعدة المقدسة لحقوق الطوائف.. ولكم أن تتصوروا كيف تكون جامعة تلك التي تنشأ توكيدا لكرامة الطائفة في مواجهة الطوائف الأخرى وكراماتها التليدة)، أو إنشاء الكليات داخل الجامعات وعدد المقاعد، كل ذلك منفصل تماما عن احتياجات لبنان، أو حتى المنطقة العربية من حوله، من الجامعيين.
وهكذا بات لدينا نوعان من العاطلين عن العمل:
الذين لم يكملوا تعليمهم لكنهم لا يتقنون مهنة أو صنعة بلغة الأجداد.
والذين أكملوا تعليمهم في تخصصات لا يحتاجها أحد، فصاروا متبطلين من الصنف الممتاز، أو هم ارتضوا أن ينسوا شهاداتهم ليقتنصوا أول فرصة عمل في أي مجال، بأمل أن تكون مرحلة انتقالية إلى الوظيفة التي تتناسب مع كفاءتهم..
صمت صديقي للحظات، ثم تنهد بحرقة قبل أن يقول: أما المصدر الثالث للخوف فهو أن يحكم هؤلاء الشباب على بلادهم من خلال ظروف اللحظة الراهنة فيصيبهم اليأس، لأنهم، في ما نحب أن نفترض، ليسوا طائفيين ولا يقبلون أن يقودهم الأخبث في دغدغة الغرائز الطائفية، والذي يحاول أن يوحي أن حقهم قد غصبه »اخر«، والآخر شقيقهم الذي يجد من يحرضه عليهم بالذريعة ذاتها.
قلت بحماسة واضحة: لكنهم، أو هكذا ليسوا من نحب أن نفترض “الأتباع” أو “الزلم” الذين يسلمون قيادهم للإقطاع أو للزعيم المقدس بنسبه والمغفورة له خطاياه، متى أخطأ، لأن العصمة بين مواصفات الزعامة وبين شروط الولاء.
وهم، في ما نحب أن نفترض، من عشاق الحرية ومن المؤمنين بأن الديموقراطية هي العلاج الشافي من معظم أمراضنا الاجتماعية.
وبالتالي، فليسوا ممن يرتضون أن تأتيهم “البواسط” بنوابهم، أو أن تسحقهم “المحادل” لتفرض عليهم من يمثلهم في البرلمان، أو أن تلغيهم المخالفات المقصودة والتقسيمات المزاجية أو المصلحية الخرقاء والبدع الاستنسابية التي تحمل اسم قانون الانتخاب والتي لا هدف لها فعلياً إلا إلغاء المواطن الناخب وحريته وإرادته.
أي أنهم ليسوا ممن يرهبهم القمع ويسكتهم التنصت على الهاتف أو التجسس على النوادي الثقافية، أو فرض الرأي الواحد على الجميع، تارة بقوة المال وطورا بقوة الأمر، وأحيانا بالقوتين معا.
قال صديقي: في صوتك رنة حسد..
قلت: ربما، ولكنني لا أحسدهم لأنهم “جيل الرفض” بالمعنى الاجتماعي، بل أغبطهم لأنهم “جيل المقاومة” بالمعنى السياسي المطلق.
إن نموذجهم أو قدوتهم أمامهم، يقاتل أمجد القتال، ويتحدى أعتى القوى من خلال مواجهته اليومية للعدو الإسرائيلي في الأرض اللبنانية المحتلة.
أما نماذجنا أو قدواتنا فمختلفة، وهي لم تكن دائما ناجحة وفي مستوى الأمل أو المكانة التي منحناها لها، ولقد خذلتنا أكثر من مرة وفي أكثر من موقع، بل وربما تخلت عنا فباعت نفسها الى الشيطان كما يشهده واقعنا المعيش، ولا سيما على مستوى الصراع العربي الإسرائيلي.
قلت: الأخطر بين ما خلّفناه لهم هو الانقسام على قاعدة طائفية، فالاختلاف السياسي دليل عافية، أما الانقسام الطائفي فأقصر طريق إلى الحرب الأهلية.
كلما توجه أحدنا نحو الآخر كان عليه أن يعبر طوائف ومذاهب وغيتوات منقرضة وأكثر من منطقة حرام، وفواصل وقواطع من ترسبات محنة الحرب الدهر التي عصفت بلبناننا فقسمت العائلة الواحدة وشتتها بين جهات عدة ومناخات وولاءات متباينة؛ بعضها متسامح وأقرب الى الصفح والغفران وبعضها الآخر متوجس وقلق من احتمال تجدد الانهيار، لا يستطيع أن ينسى خوفه فيعتصم فيه متقوقعا داخل البيئة المقفلة بالذكريات السوداء.
لقد باتت الأحياء أسماء حركية للطوائف والأعراق والعناصر.
فبرج حمود غير النبعة، والنبعة الآن غير النبعة بالأمس، وحارة الغوارنة غير انطلياس، والدكوانة غير بئر العبد، والشياح غير الغبيري، وحارة حريك غير الحازمية، والجبل جبال بحسب “سكانها الباقين” وليس الأصليين، والشمال شمالان على الأقل، والبقاع ثلاثة، وبيروت مضروبة القلب ومقسمة الى شرقية وغربية تفصل بينهما وتربط شركة سوليدير. فرأس المال يتجاوز الطوائف ويروضها ويجعلها تتوحد في خدمته.
قال الصديق مؤكداً:
لقد بات واحدنا يتحايل على الآخر ليعرفه، مقدراً أن التحديد الجغرافي سيكشف اللون الطائفي ومن ثم الاتجاه السياسي (ولو مفروضا أو مفترضا) في الكثير من الأحيان.
تذكر اسم الحي أو المنطقة فيعرف سامعك هوية قاطنيه، وبالتالي يستخرج من واقع تجربته الطويلة العدة اللازمة للتعامل معهم: المجاملة، المداراة، التواطؤ أو التوحد أو الحيادية الباردة التي تجسم الخلاف العقائدي!
قلت مستخلصاً بعض المعنى من المناسبة:
أصعب من الكلام في حضرة سلطان جائر هو الحديث إلى جيل جديد لم يألف الحوار، لأنه عاش وأهله في قلب الرعب، وأمضى طفولته متنقلاً بين الملاجئ تتوالى على سمعه الوصايا بالصمت وعدم فتح الباب لمن لا يعرفه وعدم الإجابة عن أسئلة الغرباء.
لقد فقدنا، نحن الأكبر سناً، تقاليد الحوار، وكدنا نيأس في ليل الخوف والقتل العبثي والضياع السياسي، من جدواه، قبل أن نعود إلى رشدنا ووعينا فنتحقق باليقين من أنه شرط حياة لنا في لبنان، وأن كل ما قد نختلف حوله إنما يُحل بالحوار وليس إلا بالحوار، خصوصا أننا متفقون فعليا وبدروس التجربة المرة على كل ما هو من الثوابت، وأن اختلافاتنا هي وجهات نظر سياسية وتتصل بالنظام لا بأساس الوجود ومقوماته.
قال الصديق:
هذا مع أن الحوار هو طريق لمعرفة الذات، وليس فقط لمعرفة الآخر.
والحوار هو إحدى ركائز الديموقراطية، فكيف يمنعه أو يلجمه أو يحد من حريته ذلك الطامح إلى نظام ديموقراطي حقيقة، يحترم الإنسان وحقوقه ويلبي تطلعاته الطبيعية ويسمح له بتحقيق ذاته في مناخ صحي وبالتالي وطني؟
والوطنية هي هي العروبة، فليست العروبة وافدة ولا طارئة على لبنان، بل انها تكاد تكون من صنع اللبنانيين.
ولم ينته الحوار، إنما أرجئ استكماله إلى موعد آخر.
نشرت في “السفير” بتاريخ 9 تموز 1999