كلما انحسرت الطائفية (والمذهبية) وتراجع مدها أعادت القوى المستفيدة منها والتي منها تستمد الوجود والفعالية والنفوذ، النفخ في جمرها لتعيد إشعالها كرة أخرى.
والطائفي للطائفي يشد بعضه بعضاً كالبيان المرصوص،
والتحالف الجهنمي لم يضعف يوماً لا في الحرب ولا في السلام، بل إن “الطائفيين” هم التنظيم “العقائدين” الوحيد الذي لم تسقطه التحولات المذهلة التي تهز العالم والتي أسقطت أعظم العقائد والأيديولوجيات وأقوى الأحزاب والتنظيمات السياسية ذات التاريخ العريق،
إنهم حلفاء حيثما كان: في الشارع، في جبهة القتال، في الحكم، في المعارضة، فكل يعظم من شأن الآخر ليعظم من دوره وليبرر استمراره، والعكس بالعكس،
وأمس، وعبر المواقف والتصريحات التي صدرت عن العديد من القوى حول الحكومة الجديدة سرى في البلاد فحيح طائفي ومذهبي مقيت لم نسمع في مثل رداءته ومرضيته في أبشع أيام الحرب الأهلية.
فبين الوزراء من استنكف بحجة أن طائفته لا ترضى،
وبينهم من اعترض (من ضمن القبول) لأن طائفته أخذت أقل من حقها!
وبينهم من أثار حرباً ضروساً حتى أعطي الحقيبة الأكثر دسامة،
أما بين “الفعاليات” فقد نشأ حلف جدي وشديد التماسك لمنع أصحاب الكفاءة من الوصول، كأنما الزيادة في التعصب الطائفي أو المذهبي تعوض النقص في الكفاءة.
على أن النافر بين ما تم أمس إنما صدر عن “مجلس الوزراء الجديد”، وذلك حين عين لجنة إعداد البيان الوزاري متقصداً أن يجعلها من ستة أعضاء يمثل كل منهم طائفة معينة!
لكأنهم مكلفون بوضع قانون شركة بين ستة أطراف مختلفين، لا تكفي بلاغة نصري المعلوف لصياغته بالدقة المطلوبة!
وعساهم لا يختلفون غداً حول الكلمات والحروف، ونسبة السني إلى الشيعي والماروني إلى الكاثوليكي والعلوي على البروتستانتي والدرزي إلى الأرمني في كل جملة أو عبارة في البيان العتيد!
لم يطرح أحد المشكلة من زاوية سياسية، معلناً معارضته على قاعدة افتراضه عجز الحكومة – مثلاً – عن مواجهة الأزمة الاقتصادية – الاجتماعية، أو تطرف الحكومة في موقفها من “مؤتمر السلام” بإطاره الثنائي أو المتعدد،
ولقد تناوب هؤلاء جميعاً على إعلان احتقارهم لعقول اللبنانيين والإصرار على استغفالهم ومعاملتهم كرعايا لطوائف ومذاهب وربما لجاليات أجنبية حين طرحوا اعتراضاتهم عبر فحيح طائفي ومذهبي مقيت ينحر الوطن والمواطن باسم حقوق الطائفة من أجل مقعد في وزارة متهالكة.
لم يعترض الوزير الأرمني باسم حزب الطاشناق (أي من موقعه السياسي) وإنما باسم الطائفة التي هي بعض الأرمن الذين يفترض أنهم بعض اللبنانيين،
ولم تعترض كتلة نواب طرابلس بسبب تغييب العاصمة الثانية أو الاعتراض على “الهوية” السياسية للحكومة وإنما لأن من وزر ليس نائباً (أو ليس من سمي؟!) وكان الاعتراض باسم “اكبر كتلة سنية في المجلس!!
ولم “ينقل” مروان حمادة من وزارة الاقتصاد باعتماد معايير النجاح أو الفشل وإنما لأن الطائفة الدرزية تريد واحدة من وزارات الخدمات وبالتحديد وزارة الصحة!
أمر محير حقاً من الأسوأ: هذه الحكومة أم هؤلاء المعارضون، سواء انتهوا ببلع ألسنتهم والتنعم بلذائذ الحكم بعد إعلان هذه المواقف لاستمالة “الرأي العام” من خلال تهييجه، أم أصروا على “الاستقالة” من الوزارة لربح “رئاسة” الحزب الذي كان قوياً يوم كان الأكثر طائفية ثم ضعف مع انحسار المد الطائفي في البلاد ولا بد من حقنه بالمصل الطائفي من جديد؟!
الأرجح إنهما من البضاعة نفسها: فكما يكون حكامكم تكون معارضتكم!
وأقذع النعوت التي يطلقها المعارضون على من أنزلت عليهم نعمة الحكم: فلان ليس مارونياً بالقدر الكافي، أو فلان لا يمثل الشيعة، أو فلان لا يعبر عن الشارع السني الخ!
الطريف أن الحاكمين يردون بالمنطق ذاته،
ولكن من قال إن الكل مجتمعين يعبرون عن اللبناني الطبيعي، وفي واقعه الرديء وليس في طموحه إلى الغد الأفضل؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان