تتواصل حملة التشهير اليومي ببيروت، أميرة عصر الأحزان العربية، وبلبنان، الدولة المجرّحة بسيوف المنتدبين لحمايتها وباللبنانيين، الشعب المطارد باللعنة الإسرائيلية،
نتواصل بلا انقطاع، وهي تجد – مع الأسف – مددها عبر تصرفات “القيادات” و”المسؤولين” فيها، بأكثر مما تجدها في تصرفات مواطنيها العاديين الذين يتقلبون على جمر همومهم المتزايدة مع كل مطلع شمس والتي باتت تغطي مختلف مجالات حياتهم، من السياسة إلى الاقتصاد إلى التعليم والثقافة… وانى للثقافة أن تتوالد في رحم الحرب الأهلية المضيعة قضيتها والشعارات؟!
وأمس بالذات وقع حادثان متباعدان، من حيث المبدأ، ولكنهما يصبان في سياق هذه الحملة التشهيرية إياها:
*الحدث الأول – يتمثل في القرار الطريف الجديد للعماد ميشال عون، الذي “سمح” بموجبه لأهل بيروت “الغربية” بأن ينتقلوا – بسياراتهم إذا شاءوا – إلى بيروت “الشرقية” بغرض السياحة والمتعة والترويح عن نفوسهم المتعبة.
فلقد أشفق الجنرال العطوف على أهالي “الجزء المحتل” من عاصمته وبلاده، فقرر أن يمنحهم “إجازة من العمر” في موسم اليمن والبركات والأعياد المجيدة، وهكذا فتح لهم “الحدود” مع الجنة التي تستظل بوارف حكمه العادل والأمين…
وقرار الجنرال جنرال القرارات، وهكذا فهو قد استثنى من نعمة العبور، التالية أساؤهم:
1 – الجمهورية اللبنانية، برموزها كافة، بدءاً بانتخابات الرئاسة فيها، مروراً بمجلس النواب أعضاء ورئاسة، وانتهاء بالأجهزة العسكرية والأمنية من جيش وأمن عام وقوى أمن داخلي، والحبل على الجرار،
2 – الرغيفن فهو سلاح إرهابي فتاك، ولما كان متعذراً كشفه بالتجهيزات الالكترونية الحديثة فمن الأفضل إقفال المعابر في وجهه، سواء أكان قمحاً أم طحيناً أم مرتباً في ربطات تنتظرها الأفواه الجائعة في الجانب الآخر من الحدود!
3 – المواد التموينية عموماً، وبينها الغاز والنفط ومشتقاته عموماً،
فالجنرال يخاف على “الغربية” القاصرة أن تلعب بالنار فتحترق وتحرق ما جاورها،
*الحدث الثاني، يتمثل في الجريمة البشعة التي وقعت في منطقة رأس بيروت فأودت بحياة المدرس ذي الأصل البلجيكي ارثور فان نيوفيربورخ.
لقد هزت هذه الجريمة المجهولة الأسباب والأدوات أهل بيروت واللبنانيين عموماً، كما لم تهزهم المصائب التي تتوالى عليهم – بلا شفقة – منذ سنوات طوال،
ولقد رأوى فيها محاولة جديدة لقتل بيروت ذاتها، أو ما تبقى منها،
ذلك إنها جريمة قتل للقتل، أي لتشويه السمعة، أي للتشهير السياسي بهذه العاصمة التي عرفها العالم منارة للعلم، يأتيها الطلبة والمدرسون من أربع رياض الأرض فتفتح لهم قلبها الكبير، تحضنهم وتنزلهم منزلة خاصة من نفوس أهلها، فينهلون من جامعاتها ومعاهدها ومدارسها وينابيع الحكمة فيها ما شاء لهم حظهم، ثم يغادرونها وهم يحملون لها ومنها أجمل الذكرياتز
بل إن بعضهم كان يختار أن يبقى فيها ويستوطنها مفضلاً الحياة فيها على موطنه الأصلي.
ولعل أرثور فان نيوفيربورخ، ذا الخمسة والستين عاماً، هو واحد من هؤلاء…
فالرجل الذي لا يعرفه إلا طلابه، والمصر على البقاء في بيروت منذ ثلاثة عشرة سنة، برغم كل ما مر بهذه العاصمة “العالمية” من محن، كان قد اختار بيروت وفضلها على عاصمة بلاده، وعلى بريطانيا التي يحمل جواز سفر منها،
والرجل المتزوج من تلك اليابانية الطيبة التي يعرفها محبو الأكل على الطريقة اليابانية في “مطعم طوكيو” الذي كان يمثل جانباً من غنى عاصمة الازدهار والتنوع في الشرق العربي، لم يستشعر القلق ولم يخف من أن تأكله نيران الحرب، حتى حين بدأت بالتهام أدواتها والمستفيدين منها ذاتهم، بدليل أنه اختار أن يبقى في بيروت، وأن يسلك فيها سلوك المطمئن المواصل حياته الطبيعية مفترضاً أن لا خصومة له ولا عداوات ولا ثارات ولا ثمة في شخصه ما يغري طالبي الفدية والمتاجرين بالمخطوفين من الأجانبز
ولقد يتساءل البعض: وما العلاقة بين الحادثين، ولماذا هذا الربط المفتعل بين قرار للجنرال ذي القلب الإنساني الكبير وبين هذه الجريمة التي لا يرتكبها إلا رجل بلا قلب ولا مشاعر إنسانية؟!
والعلاقة، لمن دقق في الأمرض، واضحة لمن أراد الانتباه إلى الرابط بين من يحاول قتل بيروت بطعنها في خاصرتها وبين الذي يريد قتلها، رمياً برصاص كاتم الصوت.
إن المجرم الأول بحق بيروت، ولبنان، ذلك الذي فرض على الإنسان أن ينشطر نصفين، وأن يعيش بلا دولة ولا حكم ولا حكومة ولا مؤسسات،
والذين قتلوا البلجيكي، أمس، حاولوا وما زالوا يحاولون قتل اللبناني، ولبنان ذاته،
وجريمة هي تلك التي تستهدف حياة مواطن، أو حياة أجنبي يعيش بين ظهرانينا.
ولكن أين هي، على وحشيتها، من جريمة قتل العاصمة والمواطنين وحلم الوطن؟!
وحري بنا أن نكافح لمنع الجريمتين، الصغرة والكبرى،
وأول الدرب أن نعمل على إعادة بناء الدولة،
وليس بطريقة الجنرال وفرامانات يكون بناء الدول أو حتى حفظ ما تبقى منها!
فالجنرال ليس هو عنوان الدولة، وليس هو “صاحبها” كما يدل بعض ألقابه التي أضافها إلى نياشينه مع كل خطوة خطاها لإزالة آخر معالم الدولة.
وفي انتظار الدولة سيظل اللبنانيون وضيوفهم من الأجانب معرضين للاغتيال على “الحدود” الدولية المستحدثة، أو على حدود الطوائف، أو على الحدود بين الوهم والحلم الضائع!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان