تأخر النقاش كثيراً حول: هل يذهب العرب، وبينهم الفلسطينيون، إلى المفاوضات الثنائية أم لا يذهبون.
تأخر حتى لم يعد ذا موضوع، وبات أقرب إلى الترف الفكري أو تسجيل الموقف المبدئي.
وبين “المفاوضين” الآن من يعتبر أنه قد حقق “انتصاراً” باهراً لمجرد أن الداعين إلى “مؤتمر السلام”| ورعاته قد “اعترفوا” به فدعوه، وإن الامتناع عن الذهاب أو الانقطاع عنه نكسة خطيرة.
ثم إن هذا النقاش المتأخير كثيراً عن موعده “الطبيعي” يتسم بعيب تقليدي في العمل السياسي العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً وهو: إن “المدعو” متحمس أكثر مما يجب، ومن أهمل أو أسقط اسمه أو غيب نفسه – بالاعتراض والتمسك بالموقف المبدئي – متطرف في الرفض إلى حد تخوين “القابل” و”المشارك” ، وهي تهمة خطيرة لعلها تتجاوز حدود الفعل المرتكب وظروفه.
في أي حال فالانقسام الفلسطيني أمر واقع ودائم، قبل الكفاح المسلح وبعده، بل وحول الكفاح المسلح كما حول “التسوية السلمية” ومشاريعها المتعددة والمتعثرة بمجملها.
وأبرز حجة في يد كل من المعسكرين أن الطرف الآخر لم يحقق النجاح الباهر الذي يسقط مبرر النقاش.
على أن الجديد أن ذلك الانقسام التقليدي قد صار انقسامين: كان الانقسام بداية بين “الداخل” و”قيادة الخارج”، فصار الداخل داخلين والخارج خارجين… وصار أحد “الداخلين” مفرطاً كما أحد “الخارجين”، بينما استقوى الخارج الثاني بتشدد الداخل الثاني.
كانت القاعدة التقليدية في العمل الفلسطيني تنطلق من مقولة أن “الخارج العربي هو الأكثر تفريطاً، يليه الخارج الفلسطيني فيأتي الداخل الفلسطيني معذوراً في تفريطه الاضطراري، إذ أنه “متروك للريح”،
وبعد 1967 كان شعار حركة “فتح” التي سرعان ما سيطرت على قيادة منظمة التحرير هو “توريط الأنظمة العربية” الهاربة من فلسطين في صراع مباشر مع العدو الإسرائيلي، رافضة ذرائعها عن عدم الاستعداد وعدم القدرة واختلال موازين القوى لصالح العدو الخ..
وليس مستهجناً أن يكون منطق حركة “حماس” الحالي مشابهاً لمنطق “فتح” القديم، إذ أن الحركتين قد نهلتا من المنهل ذاته وهما تنتميان – بالأصل – إلى المنشأ الفكري والسياسي نفسه.
المفارقة التي تفرض نفسها الآن تتمثل في اختلاف صورة الداخل، وبالتالي في التبدل النوعي الذي لحق بمواقف الأطراف القيادية الفلسطينية جميعاً،
فعند بدء المفاوضات، وتحديداً عشية مؤتمر مدريد، كانت القيادة الرسمية الفلسطينية تتذرع بصعوبة موقف الداخل، وبالخطر الداهم على الداخل، وبتهاوي الانتفاضة في الداخل،
كان منطق قيادة منظمة التحرير يقوم على القول: إن الداخل يضيع بينما نحن نغرق في جدل بيزنطي، فإسرائيل تقتطع كل يوم مزيداً من الأرض، وتنفي المزيد من الشبان، وتحاول أن تطرد أكبر عدد ممكن من أهل فلسطين.
وكان ذلك المنطق يخلص إلى القول بضرورة تحديد الخسائر: كائنة ما كانت هزيلة النتائج التي سنجنيها من المفاوضات فهي تحد، على الأقل، من الأضرار التي تقع على أهلنا وعلى أرضنا في فلسطين يومياً، وعلى مدار الساعة… فالمستوطنات تكاد تلتهم ما تبقى من الأرض، وأهل الداخل يعانون من ضائقة معيشية ستخرجهم من البلاد.
كان ضعف الداخل هو الذريعة الأهم التي استخدمتها قيادة الخارج لتبرير المشاركة في المفاوضات، والاستماتة في “النضال” من أجل مقعد على طاولتها، مع التبرع بالذهاب على المتعددة، باعتبار أن أية مشاركة وعلى أي مستوى تضمن شيئاً من الاعتراف بـ “الفلسطيني”، وهذا بذاته “مكسب تاريخي”.
كان الفلسطيني “نصف وفد” و”مفاوضاً مرفوضاً” بينما كان التوقع – أو التمني – أن يكون هو الرافض.
الآن، تحاول “حماس” ومن موقع “قيادة الداخل” تحقيق انتفاضة ضد قيادة الخارج الفلسطيني والخارج العربي عموماً… وعبر صراعها المرير مع “المنظمة” لا تنسى “حماس” أن تدغدغ ذلك “الداخل” بالشعار الأثير: إن كان لا بد من مفاوضات فنحن الأولى والأجدر بأن نكون المفاوض بدل أن نكون المفاوض عليه!
هل هو منطقي الاستنتاج بأن التبدل يقتصر على الأدوار، بعدما دار الفلك دورة كاملة خلال ربع القرن الذي مضى على الهزيمة العربية في حزيران 1967؟!
في البداية كانت قيادة الخارج متقدمة على الداخل فوقع الانفصال مما أبقى “الثورة” في الخارج،
الآن تبدو الأمور معكوسة ويندفع الداخل نحو ما يشبه الثورة، بينما القيادة التاريخية تسعى إلى المقعد الذي نالته (؟!) أخيراً على طاولة المفاوضات
ألا مجال لأن يكون للرصاص هدفه الصحيح الواحد، في الداخل والخارج؟
وهل هو “قدر” فلسطيني، وبالتالي عربي، أن يقع الانقسام دائماً في اللحظة الحرجة فنقلع عن الثورة حرصاً على المفاوضات، فمتى خرجنا منها خسرنا المفاوضات لأننا أضعف من أن نأخذ الحد الأدنى الممكن قبوله؟!
وهل ثمة فلسطينان حتى نضحي بإحداهما من أجل الأخرى؟!
وإذا كان “تقاعد” القيادات غير وارد وغير مألوف في دنيانا، فهل من الضرورة أن تهدف كل قيادة قائمة ما بنته حتى لا يفيد منه الوريث المحتمل، وتهدم القيادة البديلة ما بناه السابقون للتعجيل في إسقاطهم ووراثة
تركتهم… المدمرة؟!
وأين تكون فلسطين، بعد ذلك كله… وبسبب من ذلك كله، بالداخل فيها والخارج والبين بين؟!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان