تتشكل الطبقة العاملة في لبنان من ناس يعملون من دون أن يملكوا وسائل عملهم. لا يملكون إلا قوة عملهم. يضطرون الى بيع قوة عملهم للرأسماليين الذين يملكون المال وأدوات العمل. يتعاقدون على أن يقدم العامل قوة عمله مقابل الأجر والسماح له باستخدام أدوات العمل. تبقى وسائل العمل ملكاً للرأسمالي. العامل لا يملك شيئاً. يقدم قوة عمله لقاء أجر لايكاد يكفي لسد الرمق وشراء حاجيات الكساء والمبيت وما يكفل له البقاء على قيد الحياة والتناسل. صاحب المال يضع العامل سوية مع أدوات العمل لإنتاج سلعة. قيمة السلعة تحددها ما أخذه العمل من الرأسمال الثابت، وأدوات العمل التي استهلكت في عملية الإنتاج. قيمة السلعة عند البيع تحدد بأكثر من حاصل قوة العمل وما استخدم من المواد الأولية وأدوات الإنتاج، وما يفوقهما ضمناً في السلعة يسمى فائض القيمة، لذلك فإن قيمة السلعة تحوي ثلاثة اجزاء: ما استهلك في الإنتاج من قيمة أدوات العمل، والرأسمال المتحرك الذي يساوي الأجور التي دفعت للعمال، إضافة الى القيمة الفائضة. لا مصلحة للرأسمالي إذا لم تقد عملية الإنتاج الى القيمة الفائضة التي تتضمنها السلعة المنتجة، والتي تشكل ما يسمى الربح. لا ضرورة للإنتاج إذا لم يكن للربح، وكل ما يستعيده الرأسمالي من تبادل السلعة يسترد ما يساوي قيمة قوة العمل المتضمنة في السلعة، والفائض الذي يسمى ربحاً.
من دون شرح طويل للعملية الإنتاجية ومؤثراتها، نلاحظ أن العامل هو الذي يعمل عملاً منتجا. يتقاضى أجراً ولا يملك إلا أجره لسد حاجات عيشه. هو مضطر مرة بعد أخرى للتعاقد الحر مع الرأسمالي للعمل لديه. العقد من جهة العامل اضطراري لأنه يحتاجه لأسباب المعيشة. العقد من جهة الرأسمالي اختياري من جهة، لأنه يمكن أن يختار من يشاء من العاطلين عن العمل والمضطرين للعمل، واضطراري من جهة أخرى لأنه بحاجة لمن يعمل له كي ينتج السلعة التي ليس من ربح من دونها. الليبرالية تعتبر الطرفين أحراراً. الحرية شكلية لكل منهما. لكن ميزان القوى في هذا العقد هو لصالح الرأسمالي. العملية فيها حق ملكية للرأسمالي. وفيها استغلال للعامل لأنه هو المنتج لا الآلة التي تعتبر رأسمال ميت. وفيها فائض قيمة أو ربح أنتجه العامل واحتفظ به الرأسمالي لنفسه، اي صادره.
يدخل كل ذلك في إطار النصوص التعليمية التي لا تختلف فيها الماركسية البولشفية عن المنشفيك، ولا حتى عن النظريات الاقتصادية التعليمية لليبرالية، مروراً بالسيد فون مايك الى السيد كينز حتى المحافظين الجدد. كلهم يعرفون قوانين القيمة وفائض القيمة. ويعرفون مدى سرقة ونهب الطبقة الرفيعة لفائض القيمة وللقيمة ذاتها. معظم الكتابات حول الفجوة في الدخل كانت تدور حول الدخل السنوي، الى أن جاء أخيراً من ينبه الى أن الفجوة الحقيقية الكبرى هي في الثروات، وفي تراكم المداخيل. الثروة هي تراكم المداخيل، بغض النظر عما إذا كانت هذه المداخيل من نتائج عمل أصحابها، أو أنها سرقت ونهبت ممن أنتجها، فإن تراكم المداخيل هو ما أدى الى ظهور الثروات الكبرى، بأساليب مشروعة أو غير مشروعة.
السؤال الأساسي حول التراكم هو من أين جاءت المداخيل التي شكلت التراكم الأوّل؟ من أين جاء المال، وكيف تراكم المال؟ والأساس هو أن الرأسمالي قبل بدء العملية الإنتاجية الأولى كان يملك مالاً. من أين جاء المال؟ لم يأت من الإنتاج بل من مصدر آخر. الأساس في تكوّن رأس المال هو السرقة والمصادرة والإمبريالية (مصادرة ثروات الشعوب الخاضعة للسيطرة).
تغييب سؤال أساس التراكم الرأسمالي يؤدي الى غياب سؤال الوعي بماهية الرأسمال. أن تعي أن الرأسمال الحالي نماء لما قبله شيء، وأن تعي أن ما قبله سرقة ونهب واغتصاب للحقوق شيء آخر. لا يمكن البحث في التراكم الرأسمالي (تنامي الثروات) من دون البحث في أصل هذه الثروات (التراكم الأولي والبدائي). لم يحدث تنامي الثروات الرأسمالية بسبب التبادل: تبادل قيمة مقابل قيمة، حتى ولو كان هناك انحياز لصالح واحدة ضد الأخرى. جرى تراكم الثروات ليس بالتبادل الاقتصادي الحر بل بالتبادل مع غياب الاعتبارات الاقتصادية الحرة. لم تنشأ الثروات إلا من جرائم النهب والنصب والقتل والاغتيال واستعباد الشعوب. وهذا لا يعني أن شعوب المركز الامبريالي (البروليتاريا) لم تكن خاضعة لنفس قوانين النهب والسرقة والمصادرة كما شعوب البلدان المستعمرة.
الرأسمالي يعتمد العقد مع العامل، هو مضطر لذلك، تدفعه المنافسة القسرية. هو بالأساس غير موجود. لا يمكن أن يوجد من دون الطبقة العاملة. العامل يوقع العقد مضطراً، تدفعه الحاجة. هو ليس حراً، بل فقد حريته عند توقيع العقد، كما الرأسمالي. عقد حر بين أناس غير أحرار. هذا ما تخفيه الليبرالية، كيلا يدركه كلا الطرفين. هذا نوع من الضمنية، بالأحرى التعمية.
النظام الرأسمالي يظهر منه ما لا يبطنه. الكلام هنا ليس عن حرية شكلية لا يعنيها كل من الطرفين، لكنه يوقع العقد اتفاقاً مع الطقوس. على توقيع العقد تتوقف حياة الرأسمالي وحياة العامل. الفرق بينهما حق الملكية. واحد يملك ويستمتع، الآخر لا يملك ولا يستمتع. لذلك تتجه المتعة في المجتمع الرأسمالي الى ما يتعلّق بالجسد من دون كلية الإنسان في الفن، في الموسيقى، في الرسم، في المسرح، الخ… هذا لايعني أن الرأسمالي يعيش حياة لا يحسده عليه العامل. لكن عندما ينتقل العامل الى حياة الرأسمالي سوف يصاب بالكآبة. سمة العصر الرأسمالي هي الكآبة. دمّرت الرأسمالية الكثير من الأسس التي كان يمكن أن تقوم عليها سعادة الإنسان. أحلّت مكانها المتعة الجسدية. أما السعادة البشرية الكلية التي تشمل الجسد والعقل والروح فهي معدومة. الصلات بين البشر علاقات أشبه بالأرقام الخالية من المحتوى. أرقام لا تدل على شيء. الدال يزدهر. المدلول عليه يذوي ويذوب. حياة الإنسان احصائيات يصدرها النظام دورياً. النظام الرأسمالي ليس الرأسماليين، ليس العمال طبعاً. هو محو للحياة الإنسانية. الرأسمالية التي تربط مفاصل النظام ببعضها موجودة، والبشر في مختلف أجزائها أدوات.
اخترع النظام الديمقراطية من أجل تلافي الحرية. ناضل الناس طويلاً من أجل الحرية. فإذا بالديمقراطية تدخل في تعداد حساب الأرقام. المرشحون معظمهم من الطبقة الرأسمالية، والناخبون مضطرون للاختيار بينهم. ليس الكلام ضد الديمقراطية ولا ضد الانتخابات، لكن الكلام عن النظام الرأسمالي ومآسيه، مآسي البشرية. النظام جعل للانسان غاية هي الربح. المزيد من الربح. تراكم الربح. يقال ان الفقراء يرتكبون الجرائم بسبب فقرهم. العنصرية تقول أن وضعهم ناتج عن وراثتهم التي تجعلهم عرقاً أدنى مستوى، عرقاً عنده قابلية للجريمة. الجرائم أكثريتها من فعل الجنس غير الأبيض المعتبر أقل مستوى من غيره. جميع البشر من مختلف الأعراق والطبقات مدفوعون بفعل الضرورة. تحرر الإنسان ما زال بعيد المنال. تعولم العالم. العولمة قديمة قدم التاريخ. ترى مدنا سومرية في البنجاب. يقال أن الفايكنغ وصلوا الى أميركا. الهجرة أساسية في تشكّل الجنس البشري. لا يكتب التاريخ القديم إلا والهجرة جزء أساسي منه. إذا قيل أصل هذا الشعب قبائل كذا، وهذه القبائل جاءت من مكان آخر، من كان يسكن المكان الذي جاؤوا إليه؟ قتلوا شعبه الأصلي أو اندمجوا فيه. ويخترع كل شعب تكوّن في العصر الحديث أصلاً قديماً. يقيم الأعياد الوطنية للاحتفال بالأعياد التأسيسية. وهذه كلها أوهام. خرافات تحولت الى أوهام. ارتكبت في أنحاء كثيرة من الأرض مجازر كالتي ارتكبها الأوروبيون ضد ما سمي بالهنود الحمر في الأميركيتين. ما حصلت سيادة أجدادنا الهوموسابيانز إلا على أشلاء سلالة أخرى من النيندروثالز الذين لم يكونوا أقل من أسلافنا تطوراً. سفر التكوين يقول أن أحد الولدين قتل أخاه. قابيل قتل هابيل أو العكس.
تطوّر المجتمع، تقدمت المدينة، كثر العمران. طوّر كلاوسفيتز نظرية الحرب. هي استخدام العنف لفرض إرادة على أخرى. المهزوم يخضع بالكلية لصاحب النصر. قديماً، يتحوّل المهزوم الى عبد للمنتصر. حالياً ينتصر النظام. يتحوّل الخاضعون للنظام الى عبيد له. الذين يملكون والذين لا يملكون عبيد للنظام. شكل الخضوع يختلف بين هذا الفريق وذاك. الفريقان فقد كل منهما حريته.
مع تطوّر الرأسمالية، تسيّد المال. لم يعد وسيلة تبادل. ولا وسيلة محاسبة. صار سيدّا قائماً بذاته. يوجد لذاته وبذاته. الجميع يصلّون في هيكله. الهيكل موجود، هيّاه لهم الدين. العبادة موجودة. استعارها من الدين. هل كان يمكن أن يوجد المال من دون الدين، أو الدين من دون المال؟ كل منهما يبرر الآخر. كل منهما يعتبر الآخر سبيلاً الى المتعة الكبرى. على الأرض أو في الجنة. ليس غريباً أن ما يبشَّر بوجوده في الجنة يشبه ما هو موجود من متع الأرض. لكن الحجم، على الأقل في الخيال، أوسع وأكثر دواماً. البيئة هناك لن يصيبها ضرر. البيئة هنا أيضاً لن يصيبها ضرر. لا أهمية للعلم بنظر الرأسمال. بالموت تنتقل الى جنة حقيقية. فلندمر هذه التي على الأرض. المال وأهل المال يناسبهم جداً تدمير “جنة” الأرض ما دامت حقوق البيئة محفوظة في السماء. صكوك غفران من جديد. مساكين أهل الأرض. ملذاتهم ومتعهم مؤجلة. أعطونا ما لديكم على الأرض. نعطيكم السماء وما تريدون. هذا ما تردّده الرأسمالية بحياء، أو حتى من دون خجل.
مع بروز الليبرالية الجديدة (رموزها: ريغان، تاتشر، طغاة الحرب، النظام الجديد في الصين، دينغ هيساو بينغ، الإسلام السياسي، خميني، العتيبي، الاخوان المسلمون) دمّر الغرب الطبقة العاملة، وبعثر نقاباتها، وأحال الصناعة الى بلدان شرق آسيا، وبعضها الى أميركا اللاتينية وأفريقيا (ما عدا العربية). بقيت الصناعة، وبقيت الزراعة. لكن كل ذلك أزيح من موضع الى آخر. الطغيان في بلدان أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية كان كفيلاً بدفن وعي الطبقة العاملة لنفسها. الطبقة العاملة موجودة وستبقى موجودة. والرأسمال سوف يحتاج دائماً الى طبقة عاملة. لكن فعالية الطبقة مرهونة بوعي الذات. عملية الإزاحة الجغرافية أبادت هذا الوعي بالذات. الطبقة العاملة في الغرب مدمرة بفعل تشتيت تنظيماتها النقابية، أي وعيها بذاتها. والطبقة العاملة عندنا ملغاة بسبب حكم الطغاة الذي يبقى مدعوماً من الغرب الرأسمالي مهما بلغت الصراعات على السلطة. حروب أهلية، حروب تحرر وطني، حركات انفصال إثنية، قوميات جديدة، مناضلون باسم الثقافة، مناضلون باسم التقليد الديني، حركات جهادية، يسار شيوعي مدمج مع ملالي إيران، الخ… حجافل تعد بالملايين من العاطلين عن العمل، جحافل تعد بالملايين من المستعدين للعمل بأقل من حاجات الحد الأدنى. كلهم أحرار. يصوتون في الانتخابات. ويدخلون في عقود عمل لا قيمة لها. جحافل من العاطلين عن العمل في البلدان المتأخرة. يهمّون بالهجرة. ويهددون وظائف العاملين في البلدان المتقدمة. ينشأ الخوف منهم. تتكوّن فاشية غربية بعد طول غياب. تعود الفاشية في بقع معزولة (حتى الآن).
النيوليبرالية دمرت الطبقة العاملة كي تستمر في البقاء وتتجاوز أزمتها المستمرة منذ السبعينات. تحفر قبرها بيدها. لا تستمر الرأسمالية من دون الطبقة العاملة. ولا تستمر الرأسمالية من دون السياسة والحوار والنقاش وتبادل الأزمات بين الطبقة العاملة ورأس المال. هل تعتقد الرأسمالية (البورجوازية) انها تستطيع البقاء من دون شعبها؟ تحاول إلغاء شعوبها، لكن هذه الشعوب (الطبقات العاملة) هي مصدر القيمة وفائض القيمة الذي يشكل بتراكمه ثروات الطبقات العليا. انفصلت الطبقة العليا المالية عن الصناعية والزراعية. صار وجودها ربّانياً محضاً. لا تحتاج الى نقابات ولا الى الشعب ولا الى البورجوازيات الأخرى المنتجة للسلع. السلعة الوحيدة هي المال. هو مسبب الأسباب. وهو رغبة عشوائية لا تخضع لعقل أو حساب. تزول العقلانية.
حولت النيوليبرالية بلداناً عديدة الى دول فاشلة. دمرت دولاً بهيكلياتها، وبعسكرها، وباقتصادها. لا شيء يمنع أن ترتد النيوليبرالية الى بلدانها في المركز لتلقين شعوبها درساً لن تنساه. ربما كان هذا سبباً في صعود الفاشية. الزعيم الذي يرى شعبه خطراً عليه، أو الذي يرى شعبه حائزاً على أفكار لا تعجبه، أو الذي ألغى السياسة وذلك بمثابة إلغاء الشعب، والذي ارتدّ أو حاول تطويع كل إدارات النظام، لا شيء يمنع أن يتجه الى الفاشية. ليس بغير الفاشية تتحرر النيوليبرالية وعلى رأسها الرأسمال المالي ممّا تبقى من قيود، وتتحرر بالكامل ممّا يعيقها في تحقيق السلطة كاملة.
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق