اشتغلت الآلة الإعلامية الهائلة خلال الأيام الماضية كما لم تشتغل منذ سنوات. اشتغلت لنفسها عندما وجدت الفرصة سانحة واشتغلت لمختلف أطراف المسألة الكورية حسبما سمحت الأطراف وكيفما تحركت. لم يحدث منذ زمن أن اجتمعت في وقت واحد ظروف وأبطال صنعوا مشهدا قرر عباقرة الإعلام أنه تاريخي حتى قبل أن يبدأ. جرى تجهيزنا نحن مستهلكي الإعلام عبر شهور لنكون على أهبة الاستعداد لاستقبال ما كان يمكن أن يستقبله الناس استقبالا عاديا بدون هذا التجهيز باهظ التكلفة السياسية والمادية والحشد المتعمد والمبالغ فيه. أيا كان أمر الاستعداد للحدث يظهر واضحا أمامنا أن أطرافا عديدة سعت وتسعى ليكون الحدث الكوري على هذا المستوى السياسي والتخطيط الإعلامي. مهم جدا بالنسبة لنا، نحن أهل الشرق الأوسط، أن نتعرف على العوامل التي سمحت للمسألة الكورية أن تحصل على ما فرضه الالتفات الدولي لها على حساب المسألتين الفلسطينية والسورية ومسائل أخرى يتلوى بها وجعا الشرق الأوسط. نتعرف عليها ليس لغرض الاستغراق مرة أخرى في أنشطة جلد الذات ولكن ربما استطعنا ولو مرة أخيرة الانتفاض على ذواتنا لو ثبتت مسؤوليتنا عن تخلفنا في كافة سباقات تسوية النزاعات التي دخلناها.
***
سمعت أحد زملائي يتمتم هامسا بكلمات لم أستطع في لحظتها الانتباه إليها وتفسيرها في إطار ما كنا نبحث فيه ونناقشه. كنا نحلل جماعة تطورات المشهد الإعلامي المثير. نعرج أحيانا ناحية الأفعال السياسية وتوازنات القوة ثم نتوقف مترددين عند التحولات الاجتماعية الناشبة في هدوء أو في عنف حقيقي حينا ومستتر في أحيان كثيرة. صدرت من كل منا على انفراد عبارات أو كلمات مبتسرة سجلناها لنعود إليها إلا هذه العبارة الهامسة التي تمتم بها صاحبنا الشاب وقررنا مجتمعين ضرورة أن نسمعه يعيد النطق بها بصوت مسموع. تردد قبل أن يعتذر بأنه لم ينطق كلماتها بوضوح لأنه لم يكن واثقا من أنها تمس من قريب سيل تحليلاتنا في محاولة لفهم ما دفع بالمسألة الكورية إلى مقدمة قائمة المسائل الدولية المثيرة للقلق وانشغال دول بعينها في مفاوضات لتسويتها ودفع ملايين البشر لمتابعة هذه المفاوضات.
“أخيرا وجد المستبدون من حكام عالمنا المعاصر من يستبد بهم”. يعتقد زميلنا، وهو الأصغر سنا، أنه مهما كانت آراؤنا في الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فواجبنا الاعتراف بأننا نعيش فترة في العلاقات الدولية لهذا الرجل فضل كبير في صياغتها. ترامب قد يكون مجنونا بحسب تشخيص بعض أهم علماء وأطباء العقول والنفوس في الجامعات الأمريكية. هذا الرجل المجنون، ككثير من المجانين الذين قرأنا عنهم أو سمعنا بهم، يبدي رأيه في أمور يتردد العاقلون في الإفصاح عن اقتناعهم به. ترامب لم يخف يوما كرهه للمسلمين والأمريكيين من أصول إفريقية وإسبانية. يكره الانتخابات وإن جاءت به إلى الحكم. يكرهها لأنها جاءت بباراك أوباما وكادت تصل بهيلاري كلينتون إلى منصب الرئاسة، اثنان يكرههما ترامب كما لم يكره في حياته. يكره العملية الديموقراطية التي ما تزال تمارس في أمريكا مرتفقة بدرجة عالية من التقدير لحرية التعبير، التي هي في حقيقتها كما يراها ليست سوى حرية اختلاق أخبار كاذبة وترويج قصص مزيفة. يحاربها بقصص من عنده وأخبار يروجها بنفسه اعتمادا على واسطة التويتر، الاختراع الذي يضمن له كرئيس للدولة السرعة في إذاعة الخبر والتحكم في زمام المبادرة.
ماذا يعنى التغيير المستمر في أشخاص البيت الأبيض وإحلال المتشددين من السياسيين والعسكريين محل المعتدلين؟ يعني أن كره الرئيس ترامب للتشاور والتعددية في الرأي لم يخف. ترامب، مثل كثيرين في الولايات المتحدة، مؤمن كلية باستثنائية أمريكا وريثة العرش الأوروبي في حكم العالم وهيمنة الرجل الأبيض. ترامب مؤمن أيضا بضرورة استعادة مكانة أمريكا. لن تستعيد أمريكا مكانتها إلا إذا حققت في سياستها الخارجية أهدافا عاجلة منها استرجاع ما أنفقته أمريكا في الخارج، سواء كانت النفقات مخصصة لتوسعات أمريكا الإمبريالية أو لمصالحها الأمنية أو للأغراض الإنسانية. وأظن أن ما ذكره الرئيس الأمريكي مؤخرا خلال تصريح له عن دول في الشرق الأوسط قرر فيه منفردا أنها مدينة لأمريكا، تصريح يؤكد ما نذهب إليه من أن الشرق الأوسط سوف يخضع لعملية استنزاف هائلة بأساليب مبتكرة. لم يعد ممكنا أن تحقق أمريكا ما تريد في المنطقة مكتفية باستخدام إجراءات الحصار الاقتصادي والسياسي الذي تعودت على استخدامه ضد روسيا وكوريا الشمالية وإيران. لقد اكتشف الرئيس شخصيا وعائلته الحاكمة في العلن وفي السر أن ما تجنيه أمريكا من وراء النهب الصريح لثروات الشرق الأوسط، أي بأسلوب تفعيل الهيمنة المباشرة من جانب الرئيس الأمريكي، أكثر مما كانت تجنيه حاليا من وراء أساليب أخرى تقليدية كالحصار والمقاطعة والحرب. هي بالتأكيد صارت أقصر الطرق لتحقيق أقصى عائد للدولة العظمى. هكذا كانت الحقيقة التاريخية في الأزمنة القديمة وهكذا يبدو العالم عائدا إليها في ظل حكم الرئيس ترامب للدولة الأعظم.
يثور أحيانا السؤال عما إذا كان الرئيس ترامب يفضل التعامل مع حكام لا يثقون في الديموقراطية عن التعامل مع حكام اختاروا أن يلتزموا في بلادهم أسلوبا ديموقراطيا وليبراليا. أثبت الحوار الدائر في دوائر البحوث والفكر أن الإجابة بنعم هي الإجابة الوحيدة الممكنة في ظل تجارب الرئيس ترامب في حقل السياسة الدولية. تشهد الشهور الماضية على صعوبات عديدة واجهت تنفيذ سياسات الرئيس ترامب حيثما وجدت دول تحترم حريات الرأي والتعبير في مجتمعاتها. لم يتوقع الرئيس أن يخرج من صفوف حكام أوروبا من يرد عليه بأن ما أنفقته الولايات المتحدة على أنشطة حلف الأطلنطي ذهب أكثُره لحماية المصالح الأمريكية في الخارج. خرج أيضا من رد بأن مشكلات أمريكا الاقتصادية تفاقمت بسبب سوء إدارة الاقتصاد الأمريكي وتفشي فساد أمثاله في دوائر أسواق المال والأعمال المصرفية والانشائية والترفيهية وسوء توزيع الموارد واتساع الفجوة في الدخول. لن يتمكن ترامب ببساطة من فرض عقوبات وحصار على دول ديموقراطية ولن يحصل على ما يريد من نتائج إذا فرضها. على العكس نراه واثقا من الحصول على ما يريد نتيجة تعامله مع دول تهيمن عليها أساليب الاستبداد بالرأي الواحد والافتقار إلى حرية التعبير، بمعنى آخر دول لا تستطيع أن تحتج وتتمرد على هيمنة الرئاسة الأمريكية بقوة الرأي الآخر والتعددية السياسية وحقوق المواطنين.
***
تعددت الأسباب وتنوعت الظروف التي دفعت السيد كيم رئيس كوريا الشمالية للتقدم بخطى متسارعة للاستجابة إلى دعوتي كل من السيد مون رئيس جمهورية كوريا الجنوبية والسيد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية عقد اجتماعي قمة. أعود فأذكر بعضا منها، أو على الأقل ما أعتقد أنه أهمها. كان قد تسرب خلال السنوات الأخيرة إلى وعي الشعب في كوريا الشمالية وبخاصة موظفي الدولة ما يكفي من المعلومات عن ثمار الإصلاح الاقتصادي في الصين ما يكفي لإثارة تطلعات اجتماعية واقتصادية جديدة صارت تضغط بشدة غير معهودة في بلد يحكمه نظام سياسي حديدي القبضة.
من ناحية ثانية، كانت كوريا الشمالية قد استثمرت نصيبا كبيرا من أرصدتها المادية والمعنوية ومن الجهد الشخصي للعلماء وكبار العسكريين في الإعداد ثم تنفيذ حملة الصواريخ بعيدة المدى، وهي الحملة التي يمكن القول بأنها لا تتكرر إلا بنفس التكلفة الباهظة وربما بتكلفة أكبر ومخاطر أكثر. بمعنى آخر فإنه إن كان هناك وقت مناسب لاسترداد عائد لهذه الحملة فهو اللحظة الراهنة.
من ناحية ثالثة، وصلت الضغوط من الخارج على نظام الحكم في بيونج يانج وربما الدولة بأكملها إلى حد لم يعد ممكنا الاستمرار في ظله مدة أطول، وقد يستحيل بسببها ممارسة أي نشاط تنموي أو دفاعي يرتقي بإمكانات الدولة في المستقبل. بمعنى آخر كان لا بد من العمل فورا لاتخاذ قرارات هدفها التخفيف من هذه الضغوط إن لم يكن وقفها نهائيا.
من ناحية رابعة، لم يعد خافيا أن الحليف الوحيد في العالم والضامن لسلامة كوريا الشمالية والنظام الحاكم، وأقصد الصين، غير مستعد للمجازفة بمصالحه العالمية الأوسع والأهم من أجل مصلحة إقليمية هي فعلا مهمة وحيوية ولكن ليس إلى حد أن تخرب أو تهدد المصالح الصينية الأوسع. أظن أن الرئيس شي قرر على ضوء حسابات استرايتجية أوسع أن مشروعه للحزام وطريق الحرير قد تتضرر فرص نجاحه في حال استمر نظام بيونج يانج في إثارة الشغب.
من ناحية خامسة، أتصور أنه لاشك نما إلى علم وتقدير الرئيس كيم وعائلته، ما نما إلى علمنا وتقديرنا ونحن على بعد آلاف الأميال، أن الرأي العام الكوري في البلدين أصبح مستعدا لتضحيات أكبر من أجل سلام يعم شبه الجزيرة، وجاهزا للقبول بمبدأ “شعب واحد ونظامان حكم” ملتزمان التعايش والسلام.
من ناحية سادسة، خرج الأطراف جميعا مقتنعين، وإن بدرجات متفاوتة، بفضل الأسلوب “السوقي” الذي يستخدمه الرئيس ترامب في التعامل مع غيره من الرؤساء حتى صار علامة بارزة في السياسة الخارجية الأمريكية. الرئيس الأمريكي يفضل الضغط بقوة على أيدي أقرانه الرؤساء تأكيدا لثقته الكبيرة في قدرته على عقد الصفقات غير المتكافئة باستخدام أساليب الابتزاز وكسر الإرادة والتشهير وإثارة المشكلات لدى الطرف الآخر.
***
أحيانا لا تكون المؤسسات الديموقراطية الحقيقية والفاعلة ضرورية في عملية صنع القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية للدولة، ولكنها في كل الأحوال ضرورية إذا أريد لهذه القرارات أن تحظى بالشرعية الواجبة وبضمان تثبيتها واستمرارها والتفاف الشعب حولها. لا ضمان لديمومة الاتفاقات التي قد يتوصل لعقدها الرئيس ترامب أو غيره من الزعماء إذا لم يتوفر لها الرضاء الشعبي.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق