سقط الدم على الأرض.. حفظ الدم الأرض وأهلهاسقط الدم على الارض. التهبت الارض. فارت براكين الارض الخامدة والمخمدة قسراً. زلزلت الارض زلزالها، فإذا سطحها »قاني« اللون متوهج بالغضب.
سقط الدم على الوجوه. اشتعلت الوجوه بوجع الجوع الى الثورة.
سقط الدم على الزنود. غادر الشلل الزنود التي كانت قد هجرت السلاح واستكانت الى اوهام السلام المستحيل.
سقط الدم على العيون. انفتحت العيون على الحقائق المطموسة او المنسية فرأت، كأنما لأول مرة، الاشياء والناس والمواقع.
سقط الدم على الذاكرة. انتعشت الذاكرة المكدودة والمقموعة، فبعثت فيها الايام والاسماء جميعاً. لم تتبدل الحال، اذاً، ولم تتغير الصفات الاصلية بفعل التقادم. الدم هو الدم، والقاتل هو القاتل والقتيل هو المقتول كلما استعاد وعيه بذاته. نحن من نحن وهم هم، وبين العالمين حاجز من دمنا: لا هم يستطيعون الوصول إلينا الا اذا أماتونا او تطوّعنا فتماوتنا او أمَتْنا أنفسنا، ولا هم يريدون ان يصيروا مثلنا او منا لأنهم بذلك ينتهون.
سقط الدم على الكراسي. صارت الكراسي نوافير وشلالات. بات الجلوس مستحيلاً، وبات وقف الطوفان صعباً، أما الاطمئنان فقد ذهب بغير رجعة. الدم للضحية إثارة قد تدفعه الى تدمير العالم، والدم للجلاد أقصر الطرق للسيطرة على العالم.. الافتراق حتمي، اذاً، ومن ثم يكون التصادم المفتوح بين الدم والسيف.
كيف تتجاوز دمك لتعانق عدوك؟
بينك وبينه جثتك، تحاول ان تقفز إليه من فوق ذاتك متسامحاً، وقد غفرت له مذابحه في اهلك… لكنه لا يريدك، انت ايضاً، الا جثة. لا يحب العرب الا امواتاً.. فإن كان لا بد من بعضهم احياء صيّرهم دواباً تحمل عنه أثقاله. ان كنت تطمع في رأفته فعليك ان تسلمه مفاتيح بيتك، جاهزاً ومفروشاً، ان تغرس له بستانك ثم تجني له ثمار شجرك، ان تحصد له سنابل حقلك وتسلمه المحاصيل فيهبك عشاء وفرشة اسفنج وبطانية وبطاقة لاجئ بلا مغيث!
* * *
سقط الدم على الارض، لم يسقط الزند. لم تسقط الروح.
بكت الثاكل وحيدها، لكنها طالبت زوجها بالثأر وأعطته الحلق وآية الكرسي و»ما شاء الله« التي اهداها في العيد لكي يبدأ من جديد. نصبت خيمة فوق انقاض البيت وانتصبت فيها راية، لن نرحل. هنا نبقى، هنا نعيش، نقاوم، نغالب الموت والقتلة حتى نغلبهم.
سقط الدم على الارض. ارتفع الصمود قلعة حصينة.
سقط الدم على الارض. سقط العجز فغار في التراب حتى اندثرت آثاره. سقط التفجع. لا يُبكى الشهيد بل يُقتدى به.
آن ان يخرس عويل التذلل. آن ان تختفي نأمة التظلم الذي لا يسمعه إلا شامت او متشفٍّ.
للغضب وحده يصغي العالم.
وحدها كلمة »لا« المقدسة هي المسموعة.
تقول »لا« فيسمعك حتى أصم القلب والأذن.
تشهر دمك سيفاً فاذا »قانا« تملأ الكون.
لقد سقاها السيد المسيح من خمره، في عرسها، مرة، وها هي الآن تطعم العالم من لحمها اللدن، فلا يستطيع بعد ان ينساها او ان ينسى القاتل الوحش الذي يتغذى بأحداق الاطفال.
* * *
ها هي الصورة تستعيد تفاصيلها الاصلية.
سقط الدم على الصورة فأسقط التمويه والتحريف والتشويه وغبار النسيان.
اسرائيل هي »العدو«. عدو الطفل اليمني، والجنين المصري، عدو الفتى السوداني، وعدو العجوز الفلسطيني، عدو المرأة في الجزيرة العربية وعدو أستاذ الجامعة في السودان، عدو الفلاح في الجزائر، وعدو التاجر في الخليج، عدو المدرسة في الاردن وعدو التبغ في الجنوب، عدو الكهرباء في المتن، وعدو المفاعل النووي في بغداد. عدو المصانع المدارة بالغاز في سوريا وعدو سد الفرات وعدو النخيل في البصرة.
سقط الدم على الصحيفة فاكتست الكلمات صورة الحقيقة.
اترك جانباً الافتتاحيات وتصريحات القيادات. توغل الى رسائل القراء: لقد عادوا بعد التشتت والتمزق والتبعثر والضياع واحداً. من تونس الى البحرين، ومن عمان الى ليبيا، ومن مصر الى العراق، ومن سوريا الى المغرب: لقد استعاد الكل اللغة والمسميات الاصلية.
تهاوت اسطورة السلام الاسرائيلي.
وعادت الى السطح صورة الاميركي البشع.
ولم يجد خطيب المسجد الحرام غير الدم »القاني« ينثره على جموع الحجاج المقموعين والممنوعين من التحدث في السياسة.
استعادت اسرائيل اسمها الاصلي: العدو.
واستعادت الولايات المتحدة الاميركية اسمها الأصلي: حامية العدو.
تبخرت اساطير »الصداقة« و»التعاون« و»التحالف« و»رعاية السلام«، ومعها الاسطورة البيريزية المتهالكة عن »الشرق الاوسط الجديد«.
ليس لأميركا كلينتون سوى حليف واحد هو اسرائيل.
حتى فرنسا ومعها معظم اوروبا لا تحظى بشرف الحليف.
أما قانا حيث يرتبط الدم بالصمود، والمذبحة بالمقاومة فلها صداقة العالم كله.
وها هم »الاهل« من العرب يعودون الى ذواتهم ويكتشفون او يعيدون اكتشاف الحقائق الاصلية ويعيدون الى المسميات اسماءها المهجورة.
الدم هو دمنا جميعاً. القاتل هو قاتلنا جميعاً، وسيفه هو اداة الصلح والتوقيع وتاريخ السقوط.
* * *
العرب يعودون الى العرب من جديد،
والرحلة طويلة، فهم يعودون من البعيد.
سقط الدم على الارض. حفظ الدم الأرض. حفظت الارض الدم. حفظت الارض والدم كحل الارض.
نداء لاستعادة الابن الضال
الى متى يظل »المثقف« العربي ينظر الى نفسه على انه »فئة ممتازة«، وانه في أعلى عليين ولا يجوز ان ينزل الى مستوى المواطن العادي؟!
لماذا يشمع عواطفه ويحجر قلبه وقلمه ويتلطى وراء »الموضوعية« فيزوّر الوقائع او يطمسها حتى لا تحرجه فيضطر الى اتخاذ الموقف الطبيعي والبسيط والمفهوم؟!
ثمة فئة من هؤلاء المثقفين أسعدها انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي و»سقوط« الايديولوجيات فافترضت انها قد »تحررت« من البديهيات الوطنية بما هي الارتباط بالارض والقيم كالكرامة والعزة وتوكيد الهوية والانتماء القومي والحق في مستقبل أفضل من دون اغتراب او استلاب او التحول الى مرتزقة في ساحة »الثقافة« الهجينة، يروّجون للبدع على حساب الاصيل ويدعون الى دخول العصر الاميركي الاسرائيلي وكأنه نهاية التاريخ، في حين لا مكان لهم فيه؟!
ان بعض هؤلاء المثقفين يشعرون بسعادة غامرة لأن الاحزاب (العقائدية) قد فشلت، ويرى واحدهم في نفسه انه اكمل وأشمل من حزب او حركة او تنظيم سياسي، ويستغني بنفسه عن الناس مفترضاً انهم مجرد قطيع ليس عليهم الا الطاعة واتباع مثلهم الاعلى مجسماً فيه؟!
ان مثل هذا المثقف هو صورة طبق الاصل عن الحاكم الطاغية.
انه يحتقر الجماهير ولا يعطيها حق المناقشة او الاعتراض ويحاول ان يفرض عليها ما يراه، وربما ما يقتبسه عن »الآخرين« من »المتقدمين«.
وكثيراً ما يظلم المثقف نفسه بالإصرار على التمايز عن »ناسه«، ان يظهر كأنه خارج حركة شعبه.. فالتذرع بالتقدم والوعي الاستثنائي يجعله السابق الى مكمن الخطر.
الى متى يظل المثقف متبطلاً لا يفعل الا تسخيف كل تحرك »عفوي«، وإلا انتقاد كل محاولة للعمل وكل جهد لرفض الواقع؟
متى يصبح المثقف طليعة شعبه وليس طليعة مغادري واقعهم؟!
لقد فتحت قانا ابواب التوبة فليتقدم الأبناء الضالون وليعودوا الى حضن اهلهم بدلاً من ان يموتوا في برد الغربة داخل عزلتهم الموشحة.
أصنام مريد البرغوثي ومغادرة الحداد
لم يخطئ بهجت عثمان في اختيار الكلمات ورصفها على الغلاف بأناقة لافتة ببساطتها لتكون »التفسير« الصاعق لعنوان الديوان الجديد للشاعر مريد البرغوثي »ليلة مجنونة«:
»إذا الأهل أنتم، سأبكي طويلاً،
وإن خدعتني عيوني وكنتم سواكم،
وكنتم بعيدين عن كل هذا
تعالوا…«
ولأن »الحياة أغنى من كل طرق كتابتها«،
و»لأن النظر إلى الإنسان بصفته سوبرماركت، مقسماً إلى أقسام للبضائع المنفصلة، هو أمر بالغ السذاجة في الحياة، وبالغ الضرر في الكتابة«،
… فقد قدم مريد البرغوثي لديوانه الجديد ببيت من شعر أبي تمام:
»كأن به ضغناً على كل جانبٍ
من الأرض، أو شوقاً إلى كل جانب«.
وجعبة مريد البرغوثي ناضجة، والرسائل فيها مرتبة، و»إذا الشمس في أول العمر، ينتظر الريف خطوته«… لكن العناوين الآن مطموسة »لست أدري لمن سوف أوصلها، فلا أحد يرتجي خطوتي«، مع ذلك يوالي مريد الكتابة ويبعث بمكاتيبه كأي فلسطيني، إلى كل العناوين:
».. وأود لو ورَّثت مفتاحاً
لأولادي، بجانب كومة الأقفال..
….
لكنني من آخر القرن المهيأ للرحيل
يقيم في العالم العربي حفلة بؤسه
… راغب في عشقه
أو راغب في حرقه
لا فضل لي، لكنني
عاري ومجدي كله أني هنا
عاري ومجدي كله أني هنا«.
وُفِّق مريد البرغوثي الى اختيار منفاه داخل »وطنه«. أو أنه الآن داخل وطنه المنفي. لم يعد النفي وقفاً على الأفراد، أوطاننا منفية عنا بقدر ما نحن منفيون عنها وفيها:
»أحلامي ركبت، أمس، قطار الليل
ولم أعرف كيف أودعها
وأتتني أنباء تدهوره في وادٍ
ليس بذي زرع
(ونجا سائقه من بين الركاب جميعاً)
فحمدت ا”، ولم أبكِ كثيراً
فلديَّ كوابيس صغرى
سأطورها إن شاء الله إلى أحلام كبرى
… وفي يأسي أتذكر
أن هناك حياة بعد الموت
ولا مشكلة لديَّ.
لكنني أسأل:
يا الله،
أهناك حياة قبل الموت«!
أما انتقام مريد البرغوثي فقد شمل »الأصنام« جميعاً: صنم القائد الفرد الذي قالت له العرّافة العجمية »ستموت إن لم تستشر أحداً«، فاستلّ مرآة ورفعها ونظر ثم يسألها، ويكسرها »مخافة أن يعوّدها على حق الكلام« وصنم »الرحيم« الذي أعمل السيف فيمن معه »حتى لم يبق من قومه أي حي ليسمعه«، و»صنم يسوق على رمال البحر أربع نسوة« ويسحبهن خلفه مرحاً وهنّ مغلفات بالسواد من النقاب إلى العباءة والحقيبة والحذاء«،
وبعد »رأس الزرافة« يجيء »الوسام المرتجف«، ثم »زعيم الحزب«:
»الصنم الحزبي
يتناول أدوية الشيخوخة في مكتبه
ويبدل سماعة الأذنين
ليلقط أي دبيب يدنو من منصبه
ويساعده فحلان من الحراس
على حمل الكرسي، مساءً، للبيت،
يغمره الاطمئنان إلى زوجته النائمة يساره
ويحط أصابعه اليمنى فوق الكرسي
ويمسكه مغتبطاً، وينام«!
وبعد »قبعة النرجس« يجيء دور »المفسر« أو الناطق الرسمي باسم الدين وصاحب الزمان، الذي »في عينه ورع، ولكن عينه الأخرى تهيّئنا ولائم »للذئاب«، ثم »الصوينمات« و»المئتان«:
»قريتي حفنة من بيوت،
والصنم
مئة من تماثيله في الشوارع
لا يبتسم!
هل ظلمناه؟ عفواً،
ففي مئة غيرها يبتسم«!.
إنها مطالعة بليغة »ضدهم« جميعاً. ومريد يعرفهم، وقد قاربهم، وضاحكهم، ولاعبهم، وحاول استغفالهم فاستغفلوه، وكان يعرف، ثم وجد وسيلته للانتقام، وقد استخدمها بكفاءة عالية، وبفنية أعلى.
ولكم هو هائل الغنى »صندوق الجدة« ذاك الذي كاد يحتوي القضية وتاريخها وشهداءها والخارجين عليها والداخلين إليها جميعاً، ومعها الزمن مطوي كالشراشف وقد »رتّبته من ارتباكات الجفون أمام سيدها العريس إلى جنازتها القليلة في المطر«:
»هل ضاعت رسائله؟
هنا أشلاء أغلفة
طوابع لم تزل ترسو بها سفن الخليج
وأرزة ونقوش تونس، بحر قبرص
رسم أهرام وتمثال عراقي وكرتٌ من أثينا
… صور لجارتها الجديدة
(دائماً جيرانها جدد..)
ومفتاح لبيت غابر في اللد
عنوان لبيت في ضواحي القدس
صورة عقد إيجار لبيت ضيق في الشام
…. وليت العمر رتِّب هكذا يا جدتي
قومي على كتفي ومرّي في الزمان غريبة
وتأملي ما تبصرين،
من ارتباكات الجفون أمام سيدك العريس
إلى جنازتنا جميعاً في المطر..«.
تختلط السخرية بلذعة الموت، وتشرق من قلب الحزن ابتسامة الذاهب إلى قدره بثقة القاهر يأسه بإرادته:
»وسيهمس الشهداء للشهداء
هل متنا غلط؟!«
ولسوف تتوالى الأسئلة حتى ينحطم بعضها فوق بعض و»نغادر كلنا هذا الحداء«.