هذه رسائل بلا عنوان. لم تدخل حقيبة الساعي ولم تتلهف الى استلامها يد راعشة، وبقيت في الريح تطير معها الى حيث تستقر الريح!
I الليل ساجٍ والهدأة شاملة لا يعكرها الا ثرثرة النور المبهر.
أنتِ وراء الظن، وأنا امام اليقين، وبيننا بحر من علامات الاستفهام اللينة: تنام ونحن نتخطاها، ولكنها تتوالد كلما غفلنا عنها ولا تندثر في مغالق الاجوبة المبهمة.
* * *
II من البعيد تجيئين، مغلفة بالدهشة واللهفة ووقت لاستعادة اللغة ولذة اكتشاف الذات في الآخر.
متباطئة، حذرة، تجسين بصوتك الوجه الذي تشكلين ملامحه بفرشاتك ثم تمنحينه الجسد وفق التشهي.
الكلمات الاولى كاشفات لألغام الرغبة.
في المرة التالية يمكن ان يبدأ الكلام.
بعد المرة العاشرة يدور الكلام على ذاته ويرتد الى قوقعة الصدى مثقلاً بالتهكّم!
تزغرد النرجسية وهي تتمدد عبر الأثير مطلقة من قيود الرؤية ولوم العارف.
* * *
III هيا انفض الصدأ والرماد. امامك شمس جديدة وخلفك الليل والصمت والفراغ.
هيا تقدم. هيا إلي أخرجك من العدم الذي رميت نفسك فيه. ليس ميتاً إلا الموت. ليس حياً الا من طلبته الحياة. هيا اخرج الى الشمس. لا تدفن الشمس في صدرك فيحترق فؤادك، ولا ينقص من نورها شعاع. البغض عتم. الهجر عتم. الوحشة عتم. والليل أمتع من ان نضيعه في عتمة السكون.
* * *
IV تعودين مع الرنين الأليف والصوت المهجن.
تتقافزين بين مكامن الحس لاستكشاف مدى تغلغل الوافدة التي تتسلل فوق آثار همساتك الحارقات.
تنصتين قليلاً، تتعابثين، تتمددين داخل بطن الأذن لتشوشي هذا الصوت الذي تجرأ فاقتحم حرمك.
أين الصوت من الصوت؟! أين اللهفة من برودة الفضول؟! أين رعشة اللقيا من رماد المصادفة؟!
اغرق في الثرثرة حتى قمة رأسك، فأنا هنا ”كلك”.
* * *
V يشطرك الصمت إنسانين: أولهما يضيع في غياهب خوفه منك، والثاني يهم فيجبن عن إيقاف رحلة الضياع.
تخاف من صمتك، وتخاف عليه..
تخاف ان يتفجر فيفجر دنياك الراكدة جميعاً، الناس والعواطف، قصص الحب المخبوءة منذ زمن الطوفان، ودهاليز الأحقاد وأمراض الصغارة والغيرة وافتقاد الصديق.
تهم بأن تقول فيسحب الصمت الصوت الى فراغه العميق، ولا صدى.. وحين تدوي في وجدانك الخيبة تداري وجهك عن العيون خوفاً من ان تكون سمعتك عبر جمود حدقتيك بكل الظلال المعتمة المزدحمة فيها.
متى يجيء زمن القول؟!
الى متى تظل ساحة صراع بين صمتك المدوي وصوتك الأخرس والمثقل بوجعك الحبيس.
عهداً، سأعلمك اللغة، ولسوف تعشق حرف ”الحاء”.
* * *
VI تعيشين زمانك ثرثرة، فمتى يجيء الحب؟!
الحب عميق الصمت.
* * *
VII تعودين لتشغلي مساحات الصمت الفسيحة. وأتشاغل عنك بالصوت الآخر، فتتسللين اليه، وأسمعك فيه، وأحادثك فلا تسمعني الأذن الثانية.
تتراكم السنين ولا يذهب أثر الصوت. وأحسك تجيئين مع الصباح، كل يوم، لترشيه برحيقك فينمو قبل الورد ومعه، ويستطيل ظلك فيغطيني، انا الهارب الى الفيء بعدما أحرقتني الغربة وليالي الصد ووحشة الضياع بين ما أريده وأعجز عنه وما هو كائن وأمتنع بالعجز عن تغييره.
لكأنها تجيء لتؤكد حضورك.
لكأن الأخرى جاءت فقط لكي تعيدني إليك.
* * *
VIII على طرف الصوت تقفين. ينتشر الصوت، كالنسغ، متتبعاً صدى النبض، فيصير مدى تهوم فيه الفراشات والأخيلة المرقشة، وتنساب فيه موسيقى ترف كما الحلم.
يذهب الصوت وتبقين. يبقى الصوت وتذهبين، تفرد الهمسات أجنحتها وسادات لتعب الأيام، ويغضي الحزن بطرفه وهو ينسحب خافتاً ندياً، نبيلاً، يخلي المساحة للاحتمال…
والاحتمال أرجوحة تهدهد فوقها الشوق الى ذاتك فلا يستفيق تماماً ولا يبقى في خدره اللولبي.
نسافر عبر الصوت… نتلوى معه ونلويه عبر الكلمات، فلا نصل الى محطة ولا نضيع حيث يتشهى واحدنا التيه في غيهب التمني.
واحد منا خلف الصوت لا يدرك، وواحد أمام الصوت لا يدركه. يربطنا الفاصل بيننا ويفصلنا الرابط، حتى اذا ساد الصمت مجدداً غرقنا في فراغ التوقع بعدما يعجزنا تسلق المفاجأة.
تتلصص الدهشة حتى لا يضبطها الرنين الثاني حاضرة، لكن حضورها الهش يسد طريق الرغبة ويذيبها في نور المصباح كفراشات الليل.
الليل؟
الليل مسكون بالصوت. الصوت مسكون بالتمني. التمني مسكون بالعجز. العجز مسكون بالسكون. والسكون ملاذ الظنون. والظن منبت الشك. والشك شائك كالصوت المسكون بالليل، والليل حارسك والواشي.
* * *
من أين يجيء الصوت؟!
وإلى أين يذهب الصوت؟!
وأين موقعه في الزمن الجميل: قبله هو أم فيه أم بعده، حيث لا بعد؟!
يتآلف الصوت بالصوت، تتكامل الملامح المتنافرة ثم تتهاوى فتتشظى وتتناثر هباءً مخلفة بعض السراب المحطوم.
* * *
XIX انظريني لتسمعي. العين أعمق من الصوت. العين أسرع من الصوت. العين أبلغ من الصوت. خذيني من عيني، فيغمرك الدفء، ويستوي الحوار.
ولكني أخاف عينيك. أخاف ان تفجعاني. أخاف ان ألمح فيهما ظلاً لغيري. وأخاف أكثر ان تنضحا بالعطف، بينما لا أطلب إلا الحب دافقاً، معافى وصخاباً.
الى متى يستمر الهرب؟! الى متى الخوف؟ الحب والخوف لا يتساكنان. اهزمي الخوف بحبك…
الحب يحتاج الى اثنين، يمكنك ان تخاف وحيداً.
الوحدة ولاّدة الخوف، وفي ظل الخوف لا ينمو الحب. اقهري بي خوفك. احطمي القوقعة واخرجي الى النور والدفء ومتعة الحياة.
أنت من يحاصرني بالخوف. أخاف ان أحبك اكثر فأدمر غدي. أخاف ان أحبك أقل فأدمر أمسي. أخاف ان أتوقف عن حبك فأدمر حياتي.
مخيف هو الحب، لا تعرف له حدوداً لتنضبط داخلها، هو الدنيا متى ضاق، فكيف إذا ما أفرد جناحيه طليقين بغير قيد؟!
دعينا إذاً نحب ونحب ونحب حتى يمّحي الخوف. لنقتل الخوف حباً. أتشرفيني بالطلقة الأولى أيتها المرتعدة حباً؟!