لكأن كنفاني كان يعرف ان »الموت الاسرائيلي« يسعى إليه، فانصرف يكتب، يرسم، ينحت، يحاضر، يبشر، يسجل الاحاديث والندوات حول حق الفلسطيني في ارضه، حول الثورة طريقا الى التحرير، لكي ينجز مهمته من قبل ان تمتد اليه يد الارهاب الاسرائيلي فتزرع العبوة القاتلة، في سيارته، تحت بيته.
كان في سباق مع الوقت، ولقد كان قلمه يسابق عقارب الساعة، كان لديه الكثير ليقوله، ولقد قال معظم ما تمنى ان يبلغ الناس، وفي افضل الصيغ الفنية: من المقال السياسي، الى النشرة التعبوية، ومن القصة القصيرة الى الرواية، ومن قصص الاطفال الى المراجعات النقدية للكتب… مع بعض المحاولات في الشعر وفي الرسم وفي النحت وهوايات اخرى.
سنة 1936 ولد غسان كنفاني في عكا بفلسطين.
وكان عمره 36 سنة يوم »عاد« غسان كنفاني الى عكا بفلسطين.
وخلال هذا العمر القصير كتب ما لم يكتبه احد: كمù ونوعù، ولعل ما يفرح ان يكون غسان كنفاني قد اخترق بنتاجه الادبي المتميز حصار الموت الاسرائيلي فوصل الى معظم المهتمين من القراء في العالم الغربي، بالادب العربي عموما والفلسطيني خصوصا.
لقد ترجمت اعماله الى معظم اللغات الغربية: الانكليزية، الايطالية، الاسبانية، الدانماركية والالمانية والفرنسية.. وحولت بعض الاعمال القصصية الى نصوص مسرحية واذاعية.
بطل غسان كنفاني واحد في كل اعماله: فلسطين، وفلسطين هي الارض، وهي الام، هي الثورة، وهي الحلم، هي الغد الافضل، وهي الجهاد الافضل، هي كل الآخرين، هي كل العرب، وكل الطامحين الى اسقاط ليل الظلم.
لكن فلسطين هي اولا وقبل كل شيء انسانها، رجلا وامرأة صبية واطفالا يضيفون ببنادقهم طولا الى قاماتهم، وعجائز يشكلون الذاكرة الحافظة ومثل »ام سعد«، ويفرضون حضور فلسطين، بترابها المقدس وزيتونها وصور بيوتها المحتلة، كل لحظة.
وأم سعد قالت له مرة: »كن رجلا فتصلها في غمضة عين، اما ان كنت لاجئا فلن تراها انت، ولن يراها حتى احفادك«.
مفاجأة
مرة، دعانا غسان الى بيته في مار تقلا بلهجة تطفح بشرù: احضر لكم مفاجأة ممتعة.
في البيت، التقينا بعثة تلفزيونية من بعض دول الشمال الأوروبي، كان غسان غنيا بصداقاته هناك، خصوصا وقد رعتها وعززتها باستمرار رفيقة عمره الدانماركية »آني« التي أخذها الحب الى فلسطين ثم لم تغادرها ابدا.
جلسنا كمن يستعد للصلاة، وبدأ العرض.
في البداية عرضت امامنا على الشاشة مجموعة من الصور الفوتوغرافية لبعض مدن فلسطين، القدس، حيفا، يافا، نابلس، الخليل… ثم جاء دور عكا، بقلعتها البحرية وسورها ومبانيها »الاصلية«.
وحانت اللحظة: احتلت الشاشة الواجهة الحجرية للبيت العائلي، بيت فائز كنفاني، والد غسان، وكانت الياسمينة تحتل بعض المقدمة، والابواب محتفظة بألوانها الاصلية.
بعد الصور، عرض امامنا فيلم قصير، للبيت واليهود الذين »احتلوه«، بعد تهجير اصحابه، ولم تكن ثمة ضرورة للتدقيق لاكتشاف »الغربة« بين البيت بياسمينته وحجارته وألوان ابوابه ونوافذه، وبين »السكان الجدد« الذين استولوا عليه »مفروشù«.
قال غسان:
» هذه هي المصطبة، عندما وصلتنا الصور الاولى للبيت، كان معنا عمي، ولقد انفجر باكيا، في البداية، ثم بعدما ضبط انفعاله، اخذ يستذكر ايامه هناك.. وفجأة انفجر ضاحكا وهو يستذكر واقعة قديمة، وسمعته يقول لي:
» هنا نزلت بقضيب الرمان عليك! أنسيت؟ جئت يومها تمشي وانا جالس على المصطبة هذه، وقلت لي: انظر ماذا وجدت! ورأيت بين يديك قنبلة يدوية، وكنت قد نزعت حلقتها، يومها وقف شعر بدني، وهجمت عليك فانتزعتها من بين يديك وقذفتها الى الخارج، انت لم تجدها ايها الملعون، لقد تسللت الى غرفتي وسرقتها ولعبت بها، وسترك الله فلم تنفجر لسبب ما زال يحيرني. يومها نزلت عليك بقضيب الرمان في حفلة لم تعرف عمرك ما يماثلها«.
أم سعد
قبل يومين بلغ غسان كنفاني الستين من عمره… لو انه بقي معنا حتى اليوم.
مرة قالت ام سعد لغسان:
» لماذا انت حزين وغاضب؟! حين يموت الرجل فليس السؤال الذي يملأ رأسه هو »كيف« بل »لماذا«. حين يموت الرجل الذي لا أرض له فليس السؤال هو اين يدفن، ولكن اين سيدفن اولاده، افهمت يا ابن عمي؟
»قلت لها، يومئذ: ليس هو يا ام سعد، ليس هو هو. انما الامر كله نحن. حين يموت الرجل انما يسقط على اكتاف الذين لم يموتوا بعد.
»قالت أم سعد: ولو. اتعرف يا ابن عمي لماذا كانت صلاة الغائب؟ لأن الابطال لا يموتون على اسرتهم. لأن الرجال يمضون الى مصائرهم ويتصيدونها. لصلاة الغائب عندنا ثواب الحاضر. لأننا لا نصلي لجثة. أتفهم«.
الثلاثاء، في التاسع من نيسان 1996، كان غسان كنفاني سيبلغ الستين من عمره لولا ان اسرائيل انتزعت لنفسها صلاحية تحديد الاعمار والقرار في متى يكون الرحيل وكيف وبأي وسيلة، وكان ان تعجلت »ترحيل« غسان بتفجير سيارته في 8 تموز 1972.
في التاسع من نيسان، كل عام، تذهب آني كنفاني لزيارة رفيق العمر في مقر اقامته الجديدة، في مقبرة الشهداء… وبينما هي واقفة، أمس الأول، عند ضريحه، تقدم منها شاب فسألها: هل انت آني؟! ولما ردت بالإيجاب، عاد يسألها: وهل هذا ضريحه؟! قالت: أجل، واليوم عيد ميلاده وقد جئت لنحتفل معù.
قال الشاب: أنا عبد القادر عمران، من حلب، في سوريا، وقد ولدت في السنة التي اغتيل فيها غسان 1972، وبعدما قرأت عنه في كتبي المدرسية اخذت ابحث عن كتبه حتى قرأتها كلها، تقريبù،
وانتحى الشاب ركنù من المقبرة، وأخذ يخط شيئù، ثم عاد الى آني كنفاني بما كتب كتحية لغسان في ذكراه. هنا التحية:
على قبر غسان
غسان قبرك هذا اليوم معروف
فهل بظلك يا غسان نحتضرُ
فتلك زوجك جاءت كي تزور هنا
قبر الزمان الذي جادت به العبر
من ربع قرن مكثت وكنت أكبرنا
لما غرقنا بموت حاله سفر
ماذا فلسطين والابواب مغلقة
هل يعلن العرب أن الكل قد مكروا
نحتاج للشمس والانوار مشرقة
وأنت كالشمس يا غسان تنتشرُ
… وبالتأكيد فإن هذا الفتى الحلبي لم يكن ليكتب هذه الأبيات لو انه كان يقدر ان غسان كنفاني قد بات »جثة«، فلا احد يصلي لجثة، ولا احد يكتب شعرù في جثة.
***
اليوم، وقد بلغ الستين من عمره، لا بد من تحية له في عيده، وهي تحية يشاركنا فيها كل الذين حفظوه وترجموه وعمموا اثره على كل من يحتفظ في قلبه بحلم الثورة التي اسمها فلسطين.
طلال سلمان
آثاره في العالم
هنا نبذة عن آثار غسان كنفاني التي عرفها العالم، خارج دنيا العرب:
سبق ان ترجمت معظم اعمال غسان كنفاني ونشرت في حوالى 16 لغة في عشرين دولة مختلفة. وتم افراغ بعض رواياته في قالب مسرحي قدم في الاذاعات وعلى المسارح في كثير من الدول العربية والاجنبية. وتحولت روايته الشهيرة »رجال في الشمس« الى فيلم سينمائي في العام 1972 ونال جوائز عدة في مختلف مهرجانات الافلام السينمائية.
وبين عامي 1983 و1986 تم اختيار اربع روايات وقصص صغيرة من اعمال كنفاني لتنقلها الى اللغة الالمانية. في العام 1992 ترجمت الى الالمانية الرواية الشهيرة »العودة الى حيفا«، وفي العام 1994 رواية »ارض البرتقال الحزين«.
كانت رواية »رجال في الشمس« الاولى التي تم نقلها الى اللغة الانكليزية في السبعينيات وصدرت عن دور نشر في انكلترا والولايات المتحدة الاميركية، ثم نقلت الرواية نفسها وخلال السنوات العشرين الماضية الى 16 لغة.
وصدرت الطبعة الدانماركية لها العام 1990 والطبعة الانكليزية العام 1992 في القاهرة، وكانت نقلت الى اللغة الايطالية وصدرت العام 1991، والى الاسبانية العام 1991 ايضا حيث جُمعت الروايات الثلاث »رجال في الشمس«، »ام سعد« و»ما تبقى لكم« في مجلد واحد صدر في مدريد.
وكانت الرواية الاخيرة قد نقلت الى الانكليزية وصدرت في الولايات المتحدة العام 1990، في حين صدرت الطبعة الايطالية لرواية »العودة الى حيفا« في روما العام 1991 ونقلت مجددù الى الانكليزية في الولايات المتحدة العام 1994.
أما كتاب »عالم ليس لنا« وهو مجموعة قصص قصيرة صدرت العام 1965 وأهداها كنفاني الى »لميس، فايز وكل الصغار الذين نبحث عن عالم افضل لهم«، فقد نقلت الى الايطالية وصدرت في روما العام 1993.
غير ان اشهر وأروع القصص التي خص كنفاني الاطفال بها عبر ابنة اخيه لميس والتي اهداها اياها لمناسبة بلوغها التاسعة من العمر هي في كتاب »القنديل الصغير« الذي زينه بالرسومات، ونُقل الى الالمانية اولا، ثم الى الفرنسية، وحوّل الى مسرحية دمى متحركة في الدانمارك.
وقد لاقت رواية »ام سعد« اهتمام الاذاعة الدانماركية التي خصصت في العام 1993 برنامجين مطولين عن غسان كنفاني حياته وأعماله .
تمت ترجمة الجزء القليل من اعمال غسان كنفاني خلال حياته، أما الجزء الاكبر فقد نُقل الى لغات عدة بعد مماته. ومؤخرا صدرت له في بيروت في نهاية 1995 مجموعة »فارس فارس«، وهي مجموعة مقالات نقدية وهجائية نشرت من قبل في صحف لبنانية بين 1956 و1972، وكان قلة اولئك الذين عرفوا ان كنفاني هو كاتبها.