أعرف إعلاميين وخبراء سياسيين اتخذوا من متابعة دونالد ترامب هواية شخصية يقضون في ممارستها فترات طويلة من أيام تزدحم بمهام وقضايا حساسة. اجتهدوا في مجالات شتى ولكن تجمعهم جدية الاهتمام وسعة الاطلاع. يجذبني إلى هؤلاء انشغالي بأفعال ترامب وسلوكياته وفهمه الخاص جدا لوظيفته في البيت الأبيض وللعالم الذي يتصور أنه بعث ليغيره وليصنع أمريكا كما ينبغي أن تكون. يجذبني إليهم أيضا خفة ظل ما يدرسون ويناقشون. حتى الكوارث التي تسبب فيها ترامب لها جوانب تبدو لهم أحيانا هزلية أو تنتهي بحالات أقرب في الشكل إلى وضع التهريج وكثيرا ما تنتهي بنتائج غير قابلة للتصديق. المثير في هذه الهواية أنها طاردة للملل، ليس فقط لأن الرجل لا يهدأ بالليل ولا يستقر على حال أو رأي بالنهار، ولكن أيضا لأنه مجدد ومشاغب وشجاع في تزييف الحقائق وخلط القضايا. سمعت من وصفه بأنه متحرش ناجح. مارس بكثرة التحرش بالنساء وتكشف سيرته عن شهرة واسعة في هذا المجال وبين أفراد طبقة المشاهير. تكاد خبرته في إقامة علاقات مع شريحة معينة من النساء توازي خبرته في إدارة أمواله وتوسيع ممتلكاته وتنويع معارفه. عرف عنه حسن توظيف كل هذه الخبرات لتحقيق مصالحه في عالم السياسة. رأيناه وسمعناه يستميل عتاة القادة السياسيين وأكثرهم حنكة وخبرة بحلو الكلام ومعسول ألفاظ المديح. يعلن على الملأ وقوعه في شباك حب لزعماء رآهم لأول مرة أو قابلهم متأثرا بتقرير استخباراتي. فإذا أساءوا التصرف أو تأخروا في الاستجابة لمطالبه شهر بهم وعاملهم كقاذورات. نذكر له، أو للتاريخ، كيف شهر بالرئيس الكوري الشمالي كيم ثم كيف جمله تجميلا ورفع مكانته وخلع عليه الوعود والعهود ومجده تمجيدا. المفاجأة للكثيرين أنه لم يحصل منه على ما أراد. كلنا الآن في انتظار ما يمكن أن يفعله “متحرش سياسي” بوزن ساكن البيت الأبيض أهين أمام العالم بأسره.
يعتقد ريتشارد هاس المحلل الأمريكي المتفرغ والغاضب أنه بسبب الرئيس دونالد ترامب لن يكون مستقبل آسيا حسنا كما كان يأمل الاقتصاديون. هؤلاء الاقتصاديون، في رأي هاس، بنوا توقعاتهم على اعتبارات التاريخ والجغرافيا السياسية والخصال الشخصية للقادة الآسيويين، أيا كانت جنسياتهم ومعتقداتهم. لم يحسبوا حساب الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الرئيس ترامب أو حساب الآثار المترتبة على تقلبات انفعالاته وتغريداته. يعني مثلا كنا ننتظر أن ينشغل البيت الأبيض ومن ورائه مختلف المؤسسات الأمنية بتنفيذ ما جاء في استراتيجية الدفاع الأمريكي عن الاستعداد لمرحلة تنافس شديد بين الولايات المتحدة من جهة وكل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية من جهة أخرى. ما يحدث الآن لا يعكس نص الاستراتيجية أو روحها. إذ أقدم الرئيس ترامب على إقرار عدد من الإجراءات والسياسات في الساحة الأوروبية وفي الشرق الأوسط تسبب الإعلان عنها في وقيعة كبرى داخل الحلف الغربي وأثارت الشكوك في صدقية الولايات المتحدة كدولة قائد للحلف. في الوقت نفسه كانت الصين مستمرة في إقامة جزر عسكرية اصطناعية في بحر الصين الجنوبي. كانت أيضا تتحدى دعاوي الغرب في شأن الأهداف الحقيقية وراء مبادرة الحزام والطريق. كانت مثلا تخصص من مشروعها الاستثماري لإقامة منتجع على مساحة تمتد خمسة وعشرين كيلومترا على ساحل كمبوديا جزءا معتبرا لتقيم عليها قاعدة عسكرية كما فهمنا من تصريح رسمي فريد من نوعه أذاعته بكين. هذا التطور في حد ذاته ينبئ بفشل أكبر للغرب في آسيا خاصة وأنه يأتي في أعقاب قرار من ترامب ببيع تايوان أسلحة بقيمة مليارين ونصف. يسعى القرار فيما يبدو للضغط على بكين لتتساهل في مفاوضاتها التجارية الجارية مع أمريكا.
لم يقدر الرئيس ترامب أن رد الصين سيكون مضاعفا وفوريا. وبالفعل تشكل وفد يضم أقطاب الحزب الحاكم لزيارة علنية للجزر الاصطناعية في بحر الصين الجنوبي والإعلان عن القاعدة البحرية في جنوب كمبوديا. بمعنى آخر، وجهت الصين رسالة صريحة لكافة دول جنوب شرقي آسيا ولأمريكا في الوقت نفسه تعلن فيها نهاية عصر الهيمنة الأمريكية في آسيا، وصعود عصر “صيني جديد”. كمراقب ومحلل من موقع الطرف الثالث يجب أن أتمهل في اختيار الصفة المناسبة للعصر الصيني الجديد، تغريني صفة الهيمنة ولكني أحلم بصفة مختلفة تبدع الصين في خلقها كما أبدعت في ابتكارات أخرى.
مثال آخر على أساليب في صنع السياسة الخارجية في عهد الرئيس ترامب أدت إلى نتائج سلبية. استطاعت أمريكا في ظل مختلف العهود أن تحافظ على الاستقرار العسكري في منطقة شرق آسيا إلى أن جاء ترامب بطلب أن تساهم اليابان في ميزانية الدفاع عن الإقليم وعن نفسها. لم ينتبه الرئيس الذي أراد بطلبه الضغط على حكومة اليابان لتغير موقفها التفاوضي حول تعريفة ترامب، لم ينتبه إلى أن هذا الطلب سوف يعني عودة اليابان إلى عسكرة سياستها الخارجية، عودة لا تحظى برضاء الرأي العام الياباني وتسقط كل الحجج التي تساق إلى كوريا الشمالية لتنزع سلاحها النووي وتعيد إلى أذهان الرأي العام في كوريا الجنوبية ذكريات عبودية أليمة. وقد أتى رد الفعل سريعا من هناك، من الكوريتين، الشمالية تجدد عدم ثقتها في وعود ترامب والجنوبية تفتح الملف البشع، ملف التعويضات اليابانية عن تسخير العمال الكوريين في خدمة الإمبراطورية والفتيات الكوريات للترفيه عن جنود اليابان. خلاصة الأمر، عادت منطقة شرق آسيا تلتهب بتوترات سباق التسلح وذكريات الحرب، والسبب سياسات الرئيس ترامب. اليابان خطت بالفعل خطوات محسوسة نحو عسكرة سياساتها الخارجية بينما ألمانيا تخطو خطوات خجولة، آخرها الخبر غير الواضح تماما عن رغبة ألمانيا الانضمام إلى حلف الإندو باسيفيكي، أي الانتقال مرة واحدة من دولة لا يحبذ دستورها ولا الرأي العام فيها عسكرة سياستها الخارجية إلى دولة عضو في حلف آسيوي باسيفيكي بمسرح عمليات بعيد كل البعد عن المسرح الأوروبي. جاء وقت كانت أمريكا حريصة على أن تبقى كل من ألمانيا واليابان دولتين غير طبيعيتين، أي بدون جيوش. الآن مطلوب من اليابان وألمانيا أن تتصرفا في النظام الأمني الدولي كدولتين طبيعتيين. بات واضحا أن ضغط الرئيس ترامب قد حقق هدفه غير عابئ بنتائج هذا التحول على الأمن الإقليمي في كل من أوروبا وشرق آسيا.
ما زلت أعد نفسي واحدا من كثيرين منبهرين بغموض العلاقة التي تربط الرئيسين ترامب وبوتين. اثنان من خلفيات متباينة. لم يلتقيا في سابق الأيام، حسب الشواهد المسجلة، إلا لماما. أحدهما بخلفية رجل وصل إلى السياسة عبر بوابة الاستخبارات. الثاني بخلفية رجل أعمال وبخاصة أعمال المقاولات باهظة الاستثمار ومعقدة الأهداف ومسيسة النشأة والاستخدام وبخلفية صناعة الترفيه وبخاصة الأقرب منها إلى الأنشطة السوداء. سمعت أكثر من مرة وفي أكثر من منتدى من ينسب ترامب إلى بوتين ابنا مدللا أو تلميذا مجتهدا. لفت نظر العديد القول المنسوب للرئيس بوتين في نعته للمهاجر بأنه شخص “يقتل ويفسد ولا يخاف أحد لأنه بصفته مهاجرا فهو فرد في أقلية. هذه الأقلية، مثل كل الأقليات التي تعيش في كنف النظم الليبرالية، يحميها القانون وتدعمها الدساتير. ليس سرا أن ترامب يكره المهاجرين. وصفهم ذات تغريدة بأنهم حيوانات. المثير للاهتمام أن هذا الكره لم يتوقف عند حدود أمريكا مع المكسيك. فجأة صارت كل مسارح الهجرة، سواء في لبنان أو ميانمار أو كينيا أو ليبيا أو تركيا أو العراق أو إيطاليا أو كل أمريكا الوسطي وكولومبيا وفنزويلا وبنجلاديش وغيرها ساحات كره ضد الغرباء. أخطر ما فيها أن بعضها يخضع لإثارة متعمدة ومباشرة من قيادات طبقة سياسية حاكمة، وفي الغالب من حكام سلطويين. صارت أيديولوجية عصر.
أطلق ترامب إعصارا. عصف بالدبلوماسية كما عهدناها فنا ومهنة وأخلاقا. خرب أسس التوازن الحساس بين المؤسسات في النظام الليبرالي كما عرفته أمريكا وحلفاء الغرب. زرع الألغام في كل ركن في أمريكا عاشت فيه طائفة قريبا من طائفة أخرى. ألمح، بكل الاستهتار الممكن، إلى أن يوما قادم لا ريب فيه سوف يعود الرجل الأبيض سيدا على كل الأمريكيين والملونون عبيدا أو أجراء أو على سفن وطائرات تعيدهم إلى بلاد “قذرة” قدموا منها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق