بين طوفان البرقيات المؤاسية ورسائل التعزية المعبرة عن مواقف صارمة في معاداة الإرهاب وضرورة اجتثاثه من جذوره، والتي تلقاها البيت الأبيض مباشرة أو عبر السفارات الأميركية في أربع رياح الأرض، هذه البرقية الرسالة التي أهملت بالقصد، وطمس أثرها فلم يعرف بها أحد.
هنا النص الكامل لهذه الوثيقة التي يمكن تصنيفها في خانة »تاريخ ما أهمله التاريخ«:
»الأخوة الضحايا الأميركيين
»من عالمنا العلوي الطاهر المطهر، حيث لا أحقاد ولا ضغائن ولا تمييز بين البشر بحسب ألوانهم أو جنسياتهم أو أديانهم أو تلاوينهم السياسية، نتوجه إليكم بأرق مشاعر التعاطف التي تنبع من نقاء الشهادة التي نلنا شرفها من قبل.
»لقد سمعنا صرخات وجعكم، وهزتنا نداءات الاستغاثة التي لم تجد من يسمعها، وآلمنا كثيرا أن تتعرض أسركم وأن يعيش أصدقاؤكم مثل هذه المحنة، فكان لا بد أن نتوجه إليكم برسالة التضامن هذه في وجه قتلة الأبرياء والمتوجهين بعقابهم الأحمق إلى الضحايا المظلومين مرتين: مرة لأنهم اختيروا كأهداف سهلة بينما المسؤولون الفعليون عن المآسي التي تعيشها الشعوب في منجاة من هذا العقاب، ومرة ثانية لأن هذا القتل الجماعي غير المبرر يعطي ذريعة إضافية لأعداء الحياة والسلام لكي يبطشوا بالمستضعفين في الأرض فيظهروا وكأنهم حماة العدالة والإنسانية بينما هم هم السفاحون والمسؤولون عن جرائم الماضي والحاضر والمستقبل.
»لقد اهتز العالم كله لموتكم الجماعي الذي اتخذ طابع الكارثة الإنسانية، خصوصا وأن المنكوبين بفقدانكم يعدون بعشرات الألوف وربما بمئات الألوف.
»توحد الغرب كله خلفكم كما لم يتوحد في تاريخه، موجهاً بذلك رسالة اتهام ضمنية، سرعان ما بدأت تتبلور في إشارات علنية، إلى »الشرق« كله بالمسلمين فيه والعرب على وجه الخصوص.
»وبرغم أن المسؤولين العرب كافة، الحكام وقادة الأحزاب والمنظمات وأصحاب الرأي، قد سبقوا »جماهيرهم« إلى إدانة العمليات الانتحارية التي أودت بحياتكم، فإن أصابع الاتهام ظلت موجهة إلى سمر الوجوه بالمطلق، وإلى أتباع الدين الحنيف جميعا عبر تركيز الإعلام على احتمال أن يكون المنفذون من جماعة صنيعتكم المنشق السعودي أسامة بن لادن.
»وكلنا نعرف أن أسامة بن لادن اختراع أميركي، وأن المخابرات المركزية الأميركية هي التي رعته ومولته ودربت رجاله ليخوضوا »الجهاد المقدس« ضد جيوش الاتحاد السوفياتي التي كانت قد دخلت أفغانستان لحماية النظام الشيوعي الذي أقيم في لحظة غفلة فيها.
وعندنا هنا العديد من ضحايا هؤلاء الذين دربتهم ال »سي أي إيه« عند بن لادن ثم أعادت تصديرهم إلى بلدان المنشأ فأفسدوا فيها وقتلوا الأبرياء وذبحوا الأطفال وبقروا بطون الحمالى حتى لا يلدن كفاراً …
»ان السياسة لا تعنينا إلا بقدر ما نحن ضحاياها حين تتوسل »إرهاب الدولة« أداة لإخضاع الشعوب وقهرها.
»أيها الأخوة من الضحايا الأميركيين
»مثلكم، نحن، كنا نحاول أن نعيش حياتنا في سلام،
»ومثلكم كنا نحب الحياة، نحب أطفالنا وكل الأطفال في العالم، نحب بيوتنا وجيراننا وكل الناس الطيبين في مختلف أرجاء الأرض.
»ومثلكم لم نكن نستهلك عواطفنا في الكراهية وفي معاداة الآخرين، فلقد علمتنا أدياننا وتقاليدنا وحياتنا أن الناس كلهم عيال الله.
»بل لعلنا كنا ننظر إلى مجتمعكم بتقدير وإعجاب لحيويته وقدرته الفائقة على تطوير أسباب الحياة، واستقطاب العقول وأصحاب الأفكار والإبداعات والاختراعات العلمية وتوفير الفرص أمامها لكي تكتب التاريخ الجديد للحضارة الإنسانية.
»لهذا كله نرحب بكم إلى جوارنا، فالضحية أخو الضحية، والمظلوم أخو المظلوم، ونتمنى أن تتقبل عائلاتكم صادق تعزيتنا وتعاطفنا الكلي.
»إنكم لا تعرفوننا، ومن واجبنا أن نقدم أنفسنا، لكي يكتمل واجب العزاء.
»نحن المدنيين المقتولين ظلما وعدوانا، وبغير ذنب ارتكبناه، على امتداد نصف قرن أو يزيد.
»نحن النساء والرجال، تلامذة المدارس والأطفال الذين بالكاد كانوا أطلوا على الحياة، وقد تم قتلنا، مثلكم، في بيوتنا ومدارسنا ومكاتبنا ومزارعنا، برغم محبتنا للناس، وتقديسنا للحياة باعتبارها من نعم الله.
»نحن أبناء قبية ودير ياسين وكفرقاسم وغيرها كثير في المباركة فلسطين.
»نحن المدرسين والطلاب في مدرسة بحر البقر في أرض مصر المحروسة.
»نحن النساء والشيوخ والأطفال الذين حاولنا أن نهرب من الموت الاسرائيلي فلجأنا الى مقر القوات الدولية في قانا، فأحرقتنا الصواريخ والقذائف ونحن نحتمي بالعلم الأممي الأزرق.
»نحن أبناء المدن والقرى والدساكر في الجنوب والبقاع الغربي ممن أحرقتنا النار الاسرائيلية ونحن نيام في بيوتنا.
»نحن أبناء بيت جالا وطولكرم وجنين ورفح وخان يونس وغزة، أبناء الخليل ونابلس والقدس ورام الله وبيت لحم، ممن نُسفنا في بيوتنا أو قُتلنا ونحن نحاول العثور على ملجأ يحمينا من صواريخ الإف 16 وحوامات الأباتشي.
»نحن عائلة محمد الدرة وسائر العائلات التي اغتال الرصاص الاسرائيلي أطفالها وفتيتها وهم يحاولون الاحتماء بأحضان آبائهم وأمهاتهم.
»نحن الذين غدونا الآن مجرد أرقام: سقط اليوم أربعة شهداء منا وكان أمس قد سقط خمسة، وغدا سيسقط عشرة.
»نحن المدانين قبل الموت وبعده، والذين كنا نعلق آمالا عراضا على بلادكم التي توصف بأنها أرض الحرية والديموقراطية والقانون، والتي نتمنى لو أن حكومتها كانت أكثر موضوعية وعدالة في أحكامها، وأكثر احتراما لحق الشعوب الأخرى في الحياة الكريمة.
»نحن الذين ننتظر مع كل شمس جديدة المزيد من أهلنا وأقربائنا وأصدقائنا الذين ستحصدهم آلة الموت الاسرائيلية.
»نحن الذين نقدر الحياة، والذين نحترم الموت، نرحب بكم ونمد أيدينا إليكم متمنين أن نتوحد هنا، حيث لا شر ولا أشرار ولا قتلة، ضد الظلم والظالمين، ضد أعداء الشعوب، ضد الاحتلال والطغيان والعسف من أي مصدر أتى.
»أيها الأخوة من الضحايا الأميركيين: لنتحد في الموت، ضد أعداء الحياة، طالما استحال علينا أن نواجههم على الأرض معا… وأهلا بكم أخوة في الجرح والألم والظلم والشهادة«.
عن فؤاد كنعان، خارج النقد، داخل رشميا
فتى يافعاً، كنت، حين سمعت باسم فؤاد كنعان، لأول مرة.
كنت وافدا على بلدته رشميا، وطارئا على مدرستها الرسمية، أواخر الأربعينيات، ومديرها الذي اكتشفت لاحقا عمق ثقافته وصلابة موقفه السياسي، الياس صابر.
ذات يوم، أراد الياس صابر أن يعبّر عن إعجابه بموضوعات الإنشاء التي كنت أكتبها »كفروض مدرسية«، فأهداني كتيبا لفؤاد كنعان، مجموعة قصص، وقال لي: لغتك أرقى منك، هذا أمر طيب، لكن عليك أن ترعاها باستمرار، أن تتوسع في معرفتك بها. إنها أجمل لغة فوق هذه الأرض، وأغنى لغة. خذ هذا الكتاب واقرأه، ولسوف أمتحنك فيه. قد تجد فيه بعض الكلمات النافرة، فلا تتوقف عندها، بل اهتم بالصور، باللوحات الجميلة التي يبدعها هذا القلم الرشماوي الممتاز.وبعده سأعطيك كتابين لأديبين يحبهما فؤاد كما أحبهما هما عمر فاخوري ومارون عبود… وهكذا كان
قبل أن تنتهي السنة المدرسية كانت السلطة قد نقلت الياس صابر تأديبيا بحجة أنه »شيوعي«، ولم يكن أي من تلامذة الصفوف الابتدائية في تلك المدرسة الفقيرة الأثاث والتجهيز، يعرف ماذا تعني هذه الكلمة.
ومع أنني لم أستوعب تماما ماذا أقرأ في الكتاب الهدية، فقد وجدت نفسي أدعو بعض رفاق صفي إلى مساعدتي في »نقل« بعض قصص فؤاد كنعان لتعميمها داخل المدرسة وخارجها.
وبعد أيام كانت حركة الاحتجاج ضد نقل »المدير« الياس صابر قد نجحت في تحريك الناس، فخرج أهل رشميا في تظاهرة امتدت من عين الميس، قرب منزله في الطرف الشرقي للبلدة إلى البريد في الطرف الغربي، واستمرت صامتة حتى وُجد من ينبهنا الى ضرورة أن نهتف بمطالبنا، وأن نكتبها لكي يبرق بها مخفر الدرك إلى السلطات،
وفوجئ الجميع ان بين الهتافات جملاً مأخوذة بالنص من مجموعة فؤاد كنعان، وأن البرقية الاحتجاجية تضمنت فقرات من كتابات لمارون عبود وعمر فاخوري.
وكان عليّ أن أنتظر حوالى خمس عشرة سنة لكي يعرفني زميلي الياس عبود على أحد أساتذته »فؤاد كنعان«، فيرحب بي شاكرا لي أنني قد عرّفت عليه أهله في رشميا.
في »الخلوة الملكية« مع أنطوان الدويهي
»وها أنا الموشى بالذهب فوق سرج حصاني المذهب، أحمل إليك هذا الإناء، فمد يدك إليه ساعة تشاء وخذه..«.
ولقد مددت يدي إلى »الخلوة الملكية« فأخذت من أنطوان الدويهي إناءه والأفكار المتحركة داخل شكله المبهم غير القادر على الابتعاد عن مكانه، وأحببت معه »هندا« التي لم يرها حقا، ولم يعرفها أبدا، و»فيرونيكا« التي عرفها حتى كاد ينساها،
مشيت معه في جنائز القتلى الذين رأى وجوههم ونسي أسماءهم وأسقط من ذاكرته أسباب المعارك التي اندفعوا إليها من خارج الوعي وقاتلوا فيها وقتلوا أو قتلوا من خارج المأساة، في القرية التي بالمأساة عاشت الموت.
سافرت معه إلى حيث تتصل السماء بالسهول بالمحيط، وانتظرت معه في المرفأ القديم والرأس البحري وغابة الصنوبر، ودخلت معه »غرفة البطريرك« الواطئة السقف في وادي قنوبين، ثم رافقته وهو يهيم بين ضفتي »السين« في باريس، ليعود من بعد إلى قريته البلا نهر، برغم أن مجاري المياه تزنرها من جوانبها الأربعة، والتي ليست على الشاطئ، مع أنك من موقع على التلة الغربية تشم رائحة البحر وتكاد تسمع هدير أمواجه.
كيف أمكن لهذا الشاعر أن يغزل من هذه المشاهد المتناثرة بين الوعي الأولي للطفل وبين التجربة المرة للرجل الذي يعيش للحب، ربما كرد فعل عنيف على الكراهية التي طالما اجتاحت الشارع الوحيد في بلدته الذي كان يصير في لحظات ميدانا لأفراس الموت، كل قصائد العشق هذه، حيث تتوحد الطبيعة والمرأة والأمكنة الأليفة في سيمفونية رقراقة الموسيقى، دافئة الكلمات الناضحة بعذاب الافتراق عن الذات؟
»لم يكن مسلحا، وليس في بدلته شيء من عدة المعارك، وكان يرتدي قميصا فضفاضا وسروالا داكن اللون قريبا من السواد بحيث يتساءل الناظر إليه: مَن طعنه ولماذا؟!
»ومع أن جرحه عميق فليس من أثر للدماء حوله، ويشوب الجرح بعض الزرقة والنشاف كأنه مر عليه الوقت«..
ما تزال جراح زغرتا، في حرب الأربعين سنة سوداء، تظلل الصور والأماكن على بعدها. الذاكرة مسرح فسيح باتساع الدنيا، من يدخلها لا يموت، والخارج منها يصطنع حياته ويعيد تشكيل حياة الآخرين،
تكفي امرأة واحدة لكي تعيد خلق العالم.
وبين هند وفيرونيكا والأخريات البلا أسماء، والتي أنزلهن أنطوان الدويهي من اللوحات المعلقة في الفندق شبه المهجور، عند ذلك المرفأ المنسي، على الحدود بين البحر والمحيط، أعاد صياغة حيوات عديدة تحس وأنت تقرأها أنك إنما تشاركه في إحيائها!
صحيح أن زغرتا »قارة« كاملة،
فكيف إذا ما أكملت ذاتها بإهدن التي تحمل على كتفيها القرنة السوداء وتقوم على حراسة الوادي المقدس من المردة المارقين؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة إلا الحب:
حبيبي هو وطني… بفضله تعلقت بالأرض فصارت مقدسة، ومعه تعلمت حب أهلها، أهلنا، فصاروا أقرب الناس الى قلبي، وعبر الشعور بالكبرياء الذي اكتسبته منه صرت أنظر الى بلاد الآخرين فأرى بلادي الأجمل وأهلها الأعظم.
الناس بأرضها. الأرض بناسها. الناس بالحب وبالحب الحياة.