كل الأعياد والحفلات والمناسبات لم أعد أحضرها إلا نادرا، أحضرها مجبرا لعزيز غال أو لفضول شديد الإلحاح أو لدرء شبهة. دعوني لعيدها ولم أتردد. قيل لي بين ما قيل لوقف ما بدا للأقربين ترددا في القبول أو الاعتذار، “إطمئن فأنت في صحبتنا ذهابا وإيابا وأهل البيت تعرفهم كراما وودودين ولن تشعر معهم بضجر أو ملل وينتظرك كما ينتظرنا أطايب الأطباق وحلو الكلام”.
***
ما بدا للأقربين ترددا كان شرودا وتأملا. معا كنا زوجا فريدا. أنا في الحضور الأكبر على الإطلاق لا ينافسني فيه آخر. أما هي فكانت الأصغر أيضا على الإطلاق لا تنافسها في هذا الامتياز طفلة أخرى. أشهد بأنها تفوقت في أشياء وصفات أخرى عديدة. كانت، بين الاثنين هي وأنا، الأكثر حركة. أذكر أنني غيرت مكاني مرة واحدة أما هي فمشت داخل القاعة أميالا لو حسبنا عدد خطواتها خلال الحفل. لم أنافسها في المشي والحركة، وما كان يمكن أن أنافسها في معيار أو قياس الشعبية وحب الناس وإقبالهم بالأحضان وبغيرها في التعبير عن هذا الحب. تألقت وأبدعت ولم تترك فرصة ليحصل غيرها على نصيب ولو قليل من انتباه الحضور نساء ورجالا وشبيبة وأطفالا.
***
كنت أعرف أن الحفل المدعو لحضوره فرصة للتعرف على أشخاص جدد. مجرد التفكير في هذا الأمر كاف لإثارة الشك لدى الآخرين في نيتي قبول الدعوة. لم يكن سرا أنني صرت عازفا عن التعرف على جدد كثيرين أو قليلين. وجدت نفسي بعد أن وصلت وتجاوزت حاجزا عمريا معينا أبتعد عن مناسبات أو فرص للتعرف على آخر أو آخرين. لم ينشغل بالي بهذا التغير في سلوكي الاجتماعي. صحيح أنني لم أكن يوما مخلوقا مغرقا في إقامة علاقات اجتماعية كثيفة ولكني في الوقت نفسه كنت حريصا على التأني في الاختيار، وإن اخترت التزمت.
***
ليلتها، أقصد ليلة عيدها، تصادف وقوعها مع الليلة السابقة على سفر الابن عائدا إلى مقر عمله وعائلته في الخارج. اختلطت المشاعر المختلفة. أمامي كائن يمثل الجيل الرابع في عشيرة أشرف بانتسابها لي، وكائن يمثل الجيل الأول من بعد جيلي. الكائن الأصغر عمرا كان قبل شهر يجرب أن يحبو وعيناه متعلقتان بمن يمشي حوله، ولم أشك في ذلك الحين أن في وعيه حلم أن ينهض على قدميه ليمشي مثلهم ولا مانع لديه من الوقوع مرات والإصابة بأذى ثم آخر قبل أن يتحقق له الحلم. الكائن الآخر، وهو أيضا أمامي، يقف فاره الطول. وجوده يذكرني بأيام وليالي قبل ستين عاما وأكثر قضيناها معا، أمه وأنا، نحلم بأنه لن يجرب مغامرة تعود عليه وعلينا بأذى جسيم أو أزمة صعبة.
***
أعرف الآن، أو على الأكثر أخمن، أن صغيرتنا التي نحتفل اليوم بعيد بلوغها العام الأول من حياة سوف تكتشف ذات يوم أنها كانت تفكر وتقرر وهي دون العام الثاني من العمر. مرة ثانية، وفي عيدها والناس في ضوضاء هائلة وهي تتنقل من حضن لآخر، رأيتها بعين المراقب تستدرج حاضنها ليأتي بها إلى ناحيتي. كنت في ركن قصي أجلس مع دبلوماسي مصري سمعت عنه قبل لقياه أحلى الكلام، استغرقني الحديث، ولأول مرة منذ وقت غير قصير تكلمت أكثر مما تكلم محدثي. ربما هو الشوق لأصدقاء مشتركين وردت سيرهم ضمن حديثنا عن مهنة مررت عليها شابا في سن التمرد ويمارسها محدثي ويتحدث عنها بلغة النضج والثقة.
***
نجحت الصغيرة، وقد بدت لنا محمولة على غير إرادتها، في إجبار حاملها على الاقتراب من ركني القصي. مرة أخرى تقف أمامي كالمتأمل في عمق أو كالمفكر في أمر هام، مدت يدها نحونا ربما إعلانا عن رغبة صريحة في تغيير الحاضن قبل أن تسحبها بكبرياء وشموخ. تركتني أفكر كما فكرت خلال وبعد أول حديث ساكت جري بيننا وكتبت عن تفاصيله وقتذاك. تساءلت عن ماذا كانت تفكر وهي تستدرج حاملها لتأتي ناحيتنا وحين مدت يدها إلى ناحيتنا وحين سكنت حركتها لبرهة وعيناها تركزان علينا وحين ودعتنا بابتسامة. مرة أخرى أسأل “بأي لغة في هذه السن المبكرة جدا يفكرون”. رحت أنظر إليها وعيناي تقيسان حجمها طولا وعرضا ثم تحملانها في خيالي لوضعها في المشربية التي قضيت فيها من طفولتي المبكرة ساعات عديدة. أوقاتي مع هذه المشربية وما رأيت من خلال ثقوبها من تفاصيل أشخاص يمشون وأشياء تتحرك في شارع أمير الجيوش الجواني أزعم لكل الناس أنني بالفعل ما زلت أذكرها بوضوح وجلاء. لا بد أنني كنت في عمر طفلتنا أو أكبر شهورا لا أكثر، أكبر فقط بما يسمح لحجمي بأن يدخل من باب المشربية وبأن أقضي الساعات بلا ملل أطل على الشارع من نافذتها وثقوبها المحفورة بجمال وفن.
***
حانت لحظة الدعوة لنطفئ شمعة ونغني مهنئين بحلول عام جديد في حياة الكائنة التي استجدت علينا. غنى لها الصغار والكبار الأغنية التي صارت الأكثر شيوعا في عالم اليوم. تنبهت لحظتها إلى أنني أدندن مع المنشدين بصوت خافت وأن موعد نومي قد أزف. تسربت منسحبا من الحفل تاركا ورائي “أمينة” تجوب أنحاء المكان مهللة ومستعدة لسهرة طويلة تستحقها.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق