في أول لقاء مع الرئيس الدكتور سليم الحص، في مكتبه المؤقت في فردان، أواخر العام 1966، فوجئت بنمط مختلف ممن تعودنا لقاءهم من المسؤولين، كباراً بالأساس، ثم كمعاونين: كان جدي الملامح، ليس على صداقة مع الإبتسام والضحك وإطلاق النكات والمرح، كما سنتعرف عليه، في ما بعد، كأظرف من تولى المسؤولية في الزمن الصعب، لا يضاهيه في المقلب الآخر، إلا الرئيس الراحل الياس الهراوي، ولو عبر كثير من الكاريكاتور.. الأزعر!.
أما في أول لقاء مع الدكتور جورج قرم فقد كانت ابتسامته تتقدمه، في حين تتوارى ثقافته العريضة، تاركاً لك أن تحكم عليه بعد أن تتعرف اليه “في الخطي” لا في “الشفهي” الذي قد لا يدل بالضرورة على عمق المعرفة واتساع الثقافة وغزارة الانتاج رفيع المستوى..
وكان علي، وعلى الآخرين، أن يعرفوه كاتباً ليعرفوا المثقف واسع الإطلاع، عميق المعرفة، لا ينطق عن الهوى.. وان عزت عليه الكتابة بالعربية، في فترة، قبل أن يدرب نفسه على الكتابة بلغته الأم، ولو عبر مراجعة نصوصه المترجمة.
ولقد انشغلت، بداية باستعراض المراجع التي عاد اليها قبل وخلال وبعد فراغه من إملاء كتابه، فعرفت أن الرجل أخطر مما ظننت، وانه أعمق بكثير مما توحي بساطته، وأكثر إخلاصاً وجدية مما كان حين أخطأ سليم الحص فأتى به وزيراً، في الحكومة التي حاولت اعادة ترميم الدولة بعد حرب السنتين والحروب التالية..
لقد توغل الدكتور جورج قرم في المرحلة التي شهدت بداية عودة الوعي بالذات وبالواقع في العالم العربي.. ومشى مع السياقات السياسية والإشكاليات من القرن التاسع عشر حتى القرن الواحد والعشرين، داخلاً في مواجهة مع التحولات والأوجه المتعددة للفكر السياسي العربي، والتي تندرج ضمن ثقافة غنية أصبحت منسية اليوم جراء سيل الأدبيات المدنية الإسلامية الطابع التي ازدهرت خلال النصف الثاني من القرن العشرين بحيوية هذا الفكر والمجادلات الرئيسة التي تميز بها… ثم جاء زمن الآي فون ومشتقاته فأخذ الناس إلى القراءة بالأصابع التي كانت تنقل الأفكار المدهشة إلى الورق، فاذا القراء قلة في عصر أمية تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين..
أن السفر مع فكر جورج قرم متعب، فهو قارئ نهم، ومناقش مميز، لا يقبل السائد من الأحكام ويدقق في المراجع، ويسأل، ثم يسأل ويسأل.. تبارك السائل الذي لا يتقبل الجواب السهل.
واشكر الله انني عشت أكتب يومياً مبتعداً عن التورط في تأليف كتب مرجعية كالإثنين وثلاثين كتاباً التي أنجزها الدكتور جورج قرم، غير المحاضرات والندوات والمناقشات الفكرية التي ساهم فيها من دون أن يطلب جزاء ولا شكوراً.
ملاحظة: لن ادعي انني قد فرغت من قراءة هذا السفر الجديد للدكتور قرم، ولكنني أزعم انني أعرفه كفاية لأثق بأنه لا يكتب عن الهوى ولا يتصدى إلا لمهمة يشبعها درساً وتعمقاً في الأسباب والموجبات.. حتى يأتي الكتاب مولوداً شرعياً!
عافاك الله يا دكتور جورج قرم: مفخرتنا.
كلمة القيت في حفل تكريم الدكتور جورج قرم اقامته مجلة “تحولات” ضمن فعاليات معرض الكتاب العربي، الخميس 13 كانون الأول 2018