عرفتهما طفلتين “شقيتين” ثم فتاتين رائعتين محط أنظار عديد الرجال وملتقى طموحاتهم وأحلى رغباتهم. نضجتا معا وتلقيتا التعليم الذي يناسب تطلعات نساء العصر. تنقلتا معا من مدرسة إلى أخرى ومن لغتهما الوطنية إلى لغات أجنبية متعددة قبل أن تعودا معا إلى اللغة الأم واسطة مثلى للتدريب والتوعية. تعودت في صغرهما أن أراهما كل صباح وهما يستبدلان بسلالم العمارة الدرابزين النحاسي تنزلقان عليه من الطابق العاشر حيث تجاورت شقتاهما مرورا بالطابق السادس حيث كنت أسكن. تابعت صعودهما مدارج الحياة سعيدا بما حققتاه في كل مرحلة. تعودت أيضا في سنوات مراهقتهما أن أشاطر جاراتي وجيراني الفرح والسعادة اللتين أسبغتهما الفتاتان على مجتمعنا الصغير، العمارة التى جمعتنا حتى شب فيها من الأطفال من شب ونضج، وشاخ فيها من غافل العمر أو تحداه. ما أكثر ما رأيتهما وقد تزينتا كما تتزين زهرات المجتمع الأرستقراطي أسألهما فتجيبان في نفس واحد، مدعوتان لحفل في دار الأوبرا أو لحفل راقص في بيت صديق. رأيتهما عديد المرات وقد اقترب الأسبوع من نهايته يستقلان سيارة يقودها شاب ويجلس إلى جانبه شاب آخر، كلاهما من عمريهما. كثيرا ما هرعتا نحوي تغمرهما السعادة، وبالنفس الواحد الذي عهدته في أحاديثهما معي يبلغاني بخط سيرهما ونوع رفيقيهما ولقبيهما ومهنتيهما، إن كانا يعملان، ولا يغفلان عن إحاطتي بموعد عودتهما من رحلتهما.
***
لم يكن من عادة زميلاتي في المكتب اختراق خلوتي مع الكتابة أو القراءة. ذات يوم استأذنت المساعدة بنقرتين على الباب ودخلت وعلى وجهها ابتسامة حلوة. حرمتني الابتسامة من الاستمتاع بلذة ممارسة غضب المداعبة، وهو نوع من الغضب أحسنت استخدام أدواته مثل النظرة العاتبة والكلمة المحيرة والإهمال الناعم. جردتني ابتسامتها من أدواتي وبخاصة حين توجت الابتسامة بعبارة، “وجدناها يا أستاذ”. لم تنتظر لأسأل ما أو من هي التي وجدوها بل استمرت بصوتها المتهدج فرحا تعلن “وجدنا، بل وجدتنا، إحدى السيدتين اللتين كلفتنا أن نبحث عنهما”. هذه المرة لم أمنحها فرصة أخرى لتحرمني من توجيه السؤال. سألت “أين وجدتموهما، أين هما.. أقصد أين هي”. ارتاحت زميلتي وهي ترى الشغف منهمرا وتعمدت أن تلزم الصمت لحظة، ربما ثانية أو أقل، لتعود بعدها وتنطق بالاسم وتبلغني أنها تنتظر في مكتبها. وقفت مذهولة وهي تراني أخلع روب الوقار وأقفز من مقعدي في اتجاه باب غرفتي ثم غرفتها فأفتحهما، ثم أقف برهة لأتماسك قليلا قبل أن أمسك بيد الضيفة ساحبا إياها نحو الأريكة التي كثيرا ما استضافت أنهارا من أحاديث الهمس السياسي والأيديولوجي والاجتماعي. مرت ساعات غلب فيها الهمس المتبادل ثم ساعات من الحديث بصوت مسموع حين تأكدنا أن المكتب خلا إلا منا وبعدها ساعات في ركن، أحبه وكثير ما ألجأ إليه، يقع بالطابق الثالث من فندق من تلك الفنادق التي غزت عاصمتنا واحتلت مواقع على النيل كنا نظن ونحن صغار أنها ستبقى على طبيعتها خالدة تشهد على عصر شبابنا وقصص حبنا، صروح في الخيال لن يأتي يوم تدنسها فيه أبراج مشيدة من رخام ناعم الملمس قاسي القلب. هناك على أريكة أخرى في ركن الفندق المطل على النيل عدنا إلى الهمس. تهامسنا حتى بعد منتصف الليل بغير قليل.
***
ودعتها عند باب الفيلا التي قالت أنها تعيش فيها مع والديها. وعدت بلقاء قريب يضمنا نحن الثلاثة قبل أن تدلف إلى باب الحديقة ومنه إلى بوابة المبنى لتختفي هناك. عاودني على امتداد الطريق الموصل إلى بيتي التأنيب المعتاد الذي يمارسه ضمير رجل ودع امرأة دون أن يتأكد من أنه نجح في مسح دموعها وأعاد الابتسامة إلى عينيها وشفتيها قبل أن يفترقا. وصلت وفي نيتي الاختلاء بنفسي واستعادة ما سمعت خلال اليوم بنهاره وليله والتفكير في حل لمشكلة معقدة قبل أن تستفحل. لم أكد أطفئ الضوء حتى أتاني صوت رنين هاتفي الذي تركته عن عمد بعيدا. ذهبت إليه والتقطته لأسمع ما يشبه الكلمات “أنا آسفة ولكن أنت صديقنا الوحيد. أنت صديقنا الصدوق”.
***
“تذكر كيف كنا طفلتين مختلفتين عن أطفال العمارة وأطفال الحي وأطفال النادي. لا أظن أننا افترقنا يوما. نلعب معا وندرس معا ونأكل معا ونكذب معا، وفي النهاية نتلقى الثناء والتعنيف والعقاب مناصفة. تذكر ولا شك أنني كنت المغامرة بين الاثنتين والأكثر “شقاوة” والأدهى في المناورة والتخطيط. كنت دائما الأشد اندفاعا والأسرع في اتخاذ القرار. كنا معا الأذكى والأكفأ في الفصل المدرسي والصف الجامعي، وكنا معا فخر المدرسة والكلية في المسابقات الرياضية والعلمية، لم نترك مرة واحدة المركزين الأول والثاني ليحتلهما زملاء آخرون. كان شرطا غير معلن أن من يريد مصادقة واحدة منا فليحصل أولا على موافقة الأخرى ويلتزم احترام طباعها وإرادتها. لم يدخل بيننا أو معنا من لم ترض عنه واحدة منا. تطابقت، كما تعلم، ميولنا وأمزجتنا ونظراتنا إلى الحياة والناس ثم اكتشفنا حين خرجنا للدراسة الأعلى تطابق نطرتينا إلى العالم”.
“كنت لا تزال قريبا منا عندما حصلت أنا على منحة لتحصيل شهادة أعلى من إحدى أكبر الجامعات الأوروبية. تذكر كيف كانت الفرحة في العمارة مصحوبة بحزن. كان مفهوما لدى عائلتي وعائلتها وكل الجيران وأنت أهمهم وأقربهم أنني وصديقتي راحلتان معا. لم نفكر في الأمر طويلا. لم يكن ممكنا أو متصورا أن المنحة، أو أي تطور آخر، يمكن أن يفرقنا. سافرنا معا ودرسنا معا وتقاسمنا غرفة السكن والدرس وشكلنا معا حلقات جديدة من الأصدقاء والمعارف. لم نترك دارا للأوبرا أو قاعة موسيقى كبرى في كل أوروبا لم نزرها. زرنا معا معظم المدن الأثرية والتاريخية مثل أثينا وفلورنسا وسيينا وبراج وجبنا السهول وبعض أجمل البقاع الجبلية فوق دراجة بخارية. نحن أيضا تركنا في كل مكان زرناه آثارا صعب أن تمحى، سوف يأتي يوم نجلس فيه ثلاثتنا لتسمع منا تفاصيل شريط مغامرات ورومانسيات نادرا ما اجتمعت في سيرة من سير رحالة الدراجة البخارية”.
“في غمرة سعادتنا بما ننجز ونحقق معا لم ننتبه إلى احتمال أن يأتي يوم يفرض علينا أن ننفصل ويسلك كل منا طريقا غير الطريق التي اختارتها الأخرى، وربما اخترنا التعامي والإنكار. وبالفعل وفي يوم سيبقي في علاقتنا مشهودا ظهر في حياتنا رجل من مجموعة أصحاب اختلطنا بهم لمدة غير قصيرة يعرض على صديقتي الزواج. تسرعت هي بالرفض وتسرعت أنا بتحفيزها على القبول. قالت إنه واحد من دائرة أصحاب ولا شك يخلط الحب بالصداقة وهما في عقيدتنا المشتركة لا يمتزجان. قلت ولعله الاستثناء الذي يثبت القاعدة. قالت ولكن عرضه هذا يفرض علينا الاختيار بينه وبيننا. أخطأت التقدير فقلت لا شيء ولا أحد يمكن أن يفصلنا أحدنا عن الآخرى. قالت أنت مغامرة وأنا لست كذلك. أنا لن أضحي بك من أجل رجل. قلت ولكنه ليس كالرجال الذين يتكاثرون حولنا هذه الأيام، أراه رجلا مكتملا وقد جربناه صديقا لسنوات في زمن الرجال فيه قليلون، ثم من قال أن هناك خيارا بين بديلين. دعينا نقرر معا إنه مثل كل شيء وشخص مر بنا سيكون طرفا مكملا لا أكثر ولا أقل. وعلى كل حال أعدك بأن أبذل جهدا لأوافق بدوري على عرض زواج سوف يأتي. هكذا نصير أربعة. قالت ومن قال لك أنني أريد أن أكون واحدة من ثلاثة أو أربعة. لو حدث وتزوجت فليكن في علمه وعلمك وعلم كل من يستجد أننا اثنتان ولن نكون أكثر من اثنتين”.
***
“تزوجت وفي يوم عرسها بكت بمرارة. ولم يعرف سبب البكاء إلا ثلاثة، العريس أحدهم. حاول كلانا هو وأنا طمأنتها إلى أنني لن اختفي بل ولن أبتعد إلا بما يفترض أن يليق ويكون مناسبا لجميع الأطراف. استيقظت يوم “الصباحية” على رسالة نصية من الزوج يقترح أن أقوم بزيارة لهما في عشهما، أعقبتها رسالة منها تطلب الطلب نفسه. لم أذهب. تعللت بالتزامات لم تقنعها. لم يتوقف رنين الهواتف ولم أرد. دق جرس الباب صباح اليوم التالي، فتحت لأجد أمامي العريس في حال يرثى لها فقد أحاطت بعينيه هالتان من السواد وبدا منهكا وبطبيعة الحال مرتبكا. ساعدته في الجلوس وأعددت له فنجان قهوة وهدأت أساريره ونظر لي متوسلا أن أنهض وأرتدي ثياب الخروج وأجمع ثيابا في حقيبة وأذهب معه لأنني سوف أبقى معهما بعض الوقت”.
***
“مر عام . حضرت إليك اليوم لأننا، هي وأنا، في حاجة لنصيحة صديقنا الصدوق. حاولت، والأصح أننا حاولنا، التأقلم مع وضع جديد. إحدانا تزوجت وتريد أو لعلها لا تعرف كيف تدير حياتها كزوجة بمفردها. تعودت، أو تعودنا معا، أن تصدر جميع، وأكرر جميع، قراراتنا بالتشاور. لا أذكر أن واحدة منا أخذت يوما قرارا بدون العودة إلى الأخرى. قررنا مجتمعين بعد أن صار الزوج بحكم الظروف طرفا ثالثا، قررنا أن نجرب العيش معا وفي الوقت نفسه ندرب أنفسنا على انفصال يجب أن يحدث في وقت قريب. تدرب هي نفسها على اتخاذ قرارات منفردة أو بمشاركة زوجها وأدرب أنا نفسي على صيغة تتيح لي فسحة من الوقت الضرورية للعثور على حياة لنفسي”.
“واجهتنا صعوبات. يكفي أن أقول لك أن الزوج بدأ مع الوقت والتعود يمتنع عن اتخاذ قرارات لا تخصنا إلا بعد استشارتي. تركزت الاستشارات في بداية حياتنا المشتركة حول أمور تتعلق بتزويق البيت وشراء الكماليات وانتهت بعد شهور إلى قضايا تتعلق بصميم عمله وعلاقاته برؤسائه. كان يطمئن إلى آرائي وكانت صديقتي تدفعه إلى أهمية أن نتعود على حقيقة أننا صرنا ثلاثة في واحد، عبارتها المفضلة. ارتاح الرجل إلى هذه الصيغة، بل تجاوز في ارتياحه الحدود المعقولة. لم يعد يميز بين المرأتين. كلاهما يؤديان معظم الوظائف التي عادة ما يعهد بها المجتمع إلى الزوجة. صار يحملني فوق ما احتمل وتحتمله علاقتي مع صديقتي وحبي لها. تسرب الشك إلى نفسي. أرى الزوج يزداد تمسكا بواقع أنه رجل المرأتين، وأرى صديقتي وهي تزداد تمسكا بواقع استقرار الحال وارتياح كل الأطراف، وأرى نفسي وأنا أزداد تقبلا للوضع وتعاطفا مع طلبات الرجل وتقديرا لخصاله ورجولته”.
***
لا. لا. لم أعد أتحمل ولن أستسلم. خلصني يا صديقي. أنصحنا. لا أريد إغضاب صديقتي ورفيقة عمري ولكني لا أريد أن أكون طرفا في علاقة ألعب فيها دور المرأة.. المكررة أو المكملة. كيف تقنعهما، صديقتي وزوجها، وأنا معهما بأن استمرار الحال قد ينتهي بكارثة. خطر لي أن أذهب إلى صديقتي وأصرخ، بكل الحب الذي نتبادله أنت وأنا، من فضلك طلقيني من زوجك. أنا لا أريد أن أزاحمك في زوجك بعد أن صار لا يميز بيننا. أريد الاستمتاع بحقي في أن أكون لك وحدك لا أن أكون لكما معا.
تنشر بالتزامن مع جريدة الشروق