مع تكرار أفكاره وتوقّعاته وتحليلاته وتحذيراته المتناقضة أبدًا كلّ حسب الظروف والضغوط والمصالح، فاللبناني بحاجة الى أن يكون على حقّ… حتى عندما يُخْطىء، على قاعدة أن حتى الساعة المعطلة تشير الى الوقت الصحّ … مرتين في اليوم الواحد.
ولأنّه رائد في سياسة الكيل بمكيالين، فحاجة اللبناني للتمثيل في مسرحية “السادومازوشيستية” حيث الحاكم سادي والشعب مازوشيستي. وبناءً على هذه القاعدة، فاللبناني بحاجة الى الشيء.. ونقيضه، في كلّ إحتياجات الحياة عملًا بمقولة: “كلّ ضدِّ بِضدِّه” (2). ولأنّه مع الديمقراطية والطائفية / المذهبية معًا، إعتمد التوافقية اللبنانيّة المعطِّلة لكلّ إنجاز أو تقدّم، ناهيكم عن المساءلة والمحاسبة.
ولهذه الغاية هو مع النظام النسبي في إنتخاب النواب ومن ثمّ وبالتزامن مع عكسه من خلال ممارسته النظام الأكثري فيما يخصّ تسمية الوزراء وسائر التعيينات.
ولأن لبنان هو “كيان المتعارضات ونظام المضادات” على قول الكاتب الصحافي نصري الصايغ فاللبناني مع الخصخصة بما هي بيع المرافق والخدمات العامة الأساسية الى الغير (الأجنبي) للقطاعات المُربِحة (طبعًا) بذريعة أن الهدف من ذلك إنّما هو تقليص حجم القطاع العام… لكنّه يمارس في سياق ذلك “العَمْعَمَة” بما تعنيه من خلق مؤسّسات وهيئات ناظمة عامة رديفة الى جانب الوزارات التي كان من المفترض أن تحلّ تلك الهيئات محلّها ولم تفعل. والأشدّ تخريبًا، هو يعيّن موظفين ومتعاقدين ومؤقّتين على أنواع رُتَبِهم ورواتبهم وتعويضاتهم وعقود الربط (من دون الحلّ) المختلفة معهم وأعدادهم المتفاقمة أبدًا في جميع زوايا الإدارات العامة ومن ثمّ يعطّل أعمالهم بتعيين مستشارين في جميع الوزارات والإدارات والمؤسّسات ولدى كلّ المسؤولين، تنفيذيّين نافذين وغير مسؤولين في آن عن أعمالهم وبأضعاف الرواتب، الأمر الذي يضخّم حجم القطاع العام في مسرحية جهنّمية تبرع في وضع “العَمْعَمَة” في خدمة الخصخصة (أم أنّها العكس؟) يا لها من سمفونية تَخادُم بين المفهومين لمصلحة الفساد.
غريبة هذه الأمّة.. أمّة من ذوي الإحتياجات الخاصة !..
ولا نعلم حتى الآن، هل اللبناني بحاجة الى زواج ديني أومدني أو الإثنين معًا وأين تقع صلاحية تفسير كلمة “إختياري”؟
وتتكدّس الإحتياجات. فعندما ينادي الشعب بالسيادة، يسمعها الزعيم إستزلام، وهو ينادي بالإستقلال من موقع المرتهن، وعند المطالبة بالحرية يترجمها الحاكم بالمزيد من كمّ الأفواه. أما في إدارة شؤون الحياة، حين يتلمّس الشعب مفهوم الحكومة الإلكترونية (e-government) يتلهّى المسؤولون بتفسير الميثاقية له. وفيما يسأل الناس عن فوائد الإقتصاد الرقمي (digital economy) يشرح لهم الدستوريون خلفية المناصفة. وعندما يجهر البعض عن حاجتهم الى تطبيق حقّ الوصول الى المعلومات والى مُبَاشَرية (on-line) وبالتالي شفافية الإجراءات الإدارية والى منظومة الكتل المتشابكة (blockchain)، (وجُلُّها بحاجة الى الألياف الضوئية التي يُسمَع عن تنفيذ بناها التحتية منذ العام 1995 ولا يُرى الضوء فيها)، يلهو مشترعوه بتبرير أسباب عدم تطبيق المادة 95 من الدستور الإنتقالية منذ نشأة لبنان الكبير باعتبار إهمال تنفيذها أمر وجودي ومعها المادة 22. وفيما كبار العالم يتصارعون وصغارهم يتهافتون على الـ 5G ، اللبناني “يا دوب” ينادي بالـ TG أي “تيجي” … الكهرباء عنده؟ هي إذن أضغاث أحلام لا تتحقّق مخافة من إعاقة تمويل مسارب الفساد.
أمّا في سدّ بعض الإحتياجات فتكمن في تأمين الكهرباء من طريق تثبيت “حقوق” أصحاب المولّدات، والعمل على تأمين بيئة نظيفة بتعميم الكسّارات والمرامل والمكبّات، ونعالج معضلة النظافة العامة بالإمتناع عن المشاركة في حملة فرزالنفايات من مصادرها.
على أن اللبناني بحاجة الى جسر هنا ولو أنّه لا يحترم قانون السير، ويعترض على خط توتّر عالي هناك والكهرباء مقطوعة أساسًا منذ أربعة عقود، هذا مع إغفالنا (نظرًا لرتابة تكرارها) الحاجة الى سائر إحياجات البشر الأساسية من وسائل وخدمات في كلّ مكان وكلّها لا ترى النور إلّا من على أعالي المنابر.
ومع “تهذيب” مصطلح “ذوي الإحتياجات الخاصة” من سابقه “المعوّقين”، يغدو الشكر موصولًا الى جهابذة اللغة الرسميّين الذين عدّلوه من مصطلح “المُعاق” الأسبق. ومن أمثال الإعاقات ـ الإحتياجات الوصول الى موقف لسيارة أو الى إفادة مختار أو إخراج قيد صحيح من أول إصدار (مرّة) ـ ويا للفرحة الكبيرة حيث أصبح بالإمكان الحصول عليها من مراكز الأقضية ـ وكلاهما لا لزوم لهما في عصر المكننة، أو… واللائحة تطول…
واللبناني بحاجة الى شهادة “البريفيه” الملغاة عن وجه الكرة الأرضية ومعها الى مراقبة الغشّاشين من تلامذتها بكاميرات… جلّها لا يعمل يوم الإمتحان.
ومن الإحتياجات البارزة الثنائيات التي يستنبط منها اللبناني إكسير الحياة. وثنائيته المفضلة هي “نحن وهم”… منذ الصِغَرْ (كما يشرحها بتميّز الدكتور جورج قرم). واللبناني بحاجة الى الثنائيات المتناقضة وتبقى أبرزها تلك “المكسيكية” منها: أنا ولا أحد. وبعد عامودية الإنقسام حتى تخوم الفتنة بين 8 و14 في خطين متوازيين لا يلتقيان أبدًا، أمّا إذا التقيا؟.. فلا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم! بات اللبناني بحاجة الى ألوان تبعث “الحياة” في مصيره القاتم اللون. ومن الألوان ما زيّن “غرافيتّيّات” (graffiti) الأحزاب: أخضر، أصفر، القوي، القوية، أزرق أبيض، برتقالي فستقي، أحمر أسود حتى لا نهاية القزح.
واللبناني بحاجة الى أغانٍ حماسية وأناشيد تذكّره كلّ فترة بالشعب العنيد الذي يعيد إعمار بلده، تكرارًا، من دون أن يسأل لماذا يكرّر هذا العمل كلّ فترة ومن دون أن يحاسب المسؤول (ال: ماكيافيلي في المضمون وال: غاندي في الشكل) عن هذا كلّه.
على أن أولى إحتياجات اللبناني تبقى تفكيك إقتصادات الحرب، التي قيل أنها إنتهت منذ حين، وأهمّها الإحتكارات السياسية التي تنحسر ومعها التجارية التي تنحصر وبسببها حقوق الشعب التي تندثر.
فعلًا، طيورٌ نحنُ … وقد وقعنا على أشكالنا!
(1) على أثر صدور الجزء الأول من هذا المقال إتّصل بي الأستاذ الجامعي (أدب عربي ولغة) الدكتور همذان سليمان قائلًا أن العنوان صحّ ولكن الأصحّ قد يكون “أمّة من ذوات الإحتياجات الخاصة” لكون أمّة مؤنّث. فاعترفت له بالذنب مشفوعًا بعذر قاطع أنّه، في حالة مقالتي، لا يجوز الصحّ هنا مخافة من أن تُعْتَبَر “ذوات” على أنها مشتقة من مفهوم “البيكوات” لبّ موضع الإنتقاد في المقالة.
(2) “إن يكن كاملًا فينقصه النقص … قرين قد غاب عنه قرين
كلّ ضدِّ بِضدِّه … فإذا ما … فقِد الظنّ كيف يبدو اليقين؟”
سليم حيدر ـ ديوان “الخليقة” – الفصل الأول ـ القرار العصي ـ الصفحة 46 ـ الشركة العربية للكتاب، 2001