كانت الأيام الأخيرة فرصة لن تتكرر قريبا أمام قادة الصين للتفكير ثم تدبير اتخاذ خطوات ملموسة نحو تدشين مرحلة جديدة للخروج بالدولة والمجتمع من حال إلى حال أفضل. لم يكن غائبا عن قادة الصين المجتمعين في قصر المؤتمرات ببكين حقيقة أن تطورات دولية وإقليمية وداخلية عديدة وقعت خلال الولاية الثانية للرئيس شي بعضها أثمر تهديدات خيمت على أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، وإنه من واجب الحزب الاستعداد لمواجهتها والتخلص منها إن أمكن قبل حلول موعد انعقاد المؤتمر الحادي والعشرين المنعقد بعد خمسة أعوام.
باحثون غربيون أجروا تحليلا كميا لخطب القادة الصينيين ووثائق المؤتمر كشف عن حجم المشكلات التي كانت تواجه حكومة الحزب وبخاصة خلال الولاية الثانية للرئيس شي المنتهية قبل حوالى أسبوع. أكثر هذه المشكلات أو التطورات وآثارها باقية مع ولايته الثالثة. لذلك يجب أن نقر بداية بأن مسيرة الولاية الثالثة للرئيس الصيني لن تخلو من الصعوبات، ولأغلبها تأثير مباشر وغير مباشر على مستقبل الصين ولكن أيضا على آسيا بخاصة والعالم عامة. لذلك لفت نظري التحليل الكمي لأنه أبرز بوضوح مواقع التركيز في منظومة التفكير السياسي الرسمي في الصين في الوقت الراهن وفي السنوات القادمة، كثرت هذه المواقع أو قلت. ورد في التحليل على سبيل المثال وليس الحصر أن كلمة الأمن تكررت في تقرير الحزب الأخير 91 مرة بينما وردت 35 مرة في خطاب التنحي للرئيس السابق في 2012، وأن كلمة عسكري ترددت 21 مرة في آخر تقرير للحزب بينما وردت أربع مرات فقط في خطاب الرئيس دينج قائد عملية الإصلاح والانفتاح في عام 1982، وأن كلمة النضال وردت في التقرير 22 مرة بينما لم تأت في خطاب تنحي الرئيس السابق سوى 5 مرات. كذلك وردت كلمة الفساد 29 مرة في التقرير الأخير الذي أشرف على كتابته وإخراجه الرئيس الحالي بينما لم تهتم به هذا الاهتمام التقارير السابقة التي صدرت والخطب التي ألقيت منذ عهد مؤسس الدولة الحديثة الرئيس ماو.
تصادف، أو لعله حدث عمدا، إصدار البيت الأبيض لوثيقة استراتيجية الأمن القومي مع إصدار الحزب الشيوعي الصيني تقريره النهائي الذي اهتم بشكل غير مألوف بقضايا الأمن القومي. الوثيقتان، وبدقة أكبر، الوثائق والخطب الصادرة مؤخرا من الجانبين الصيني والأمريكي اهتمت جميعها بشكل استثنائي بفكرة ضرورة إنشاء أو دعم المنظمات المهتمة بالأمن الإقليمي. لم يعد خافيا أن أمريكا صارت تعتبر حلف الناتو بمثابة شبكة أحلاف إقليمية يديرها ويقودها حلف الناتو. لم يعد خافيا في الوقت نفسه خطة الصين للعمل على توسيع عضوية مجموعة البريكس التي تضم إلى جانب كل من الصين وروسيا البرازيل والهند واتحاد جنوب أفريقيا. تسعى الصين، وروسيا أيضا، نحو السعودية باعتبارها، حسب رأي الرئيس بوتين في خطابه أمام أعضاء مجموعة فالداي، قوة إقليمية صاعدة، ويتردد أيضا اسم مصر ودول أخرى تبحث لنفسها عن دور في مجموعة إقليمية فاعلة ومؤثرة.
•••
أتصور أن أسبابا عديدة تقف وراء اهتمام الصين المتزايد بتشكيل مجموعات إقليمية يكون للصين فيها دور قيادي. أول هذه الأسباب كما أتصور هو الدفع القوي من جانب أمريكا تحديدا لنقل تركيزها نحو آسيا أو دعمه إن وجد إلى حدود قصوى. أمريكا تتواجد بنفسها وبقواها الضاربة في مواقع معروفة كما في جزر المحيط الهادي، وموجودة بشكل غير مباشر في حلفين ابتكرتهما مؤخرا، أحدهما تقوده بالنيابة عنها أستراليا، وثانيهما تقوده اليابان على أمل أن تنشط الهند وتتولي القيادة. في الحالتين الهدف هو الصين.
ثاني الأسباب وراء الاهتمام الصيني الجديد أو المتزايد بموضوع الأحلاف الإقليمية سبب غير معلن ولا يناقش علنا في دوائر البحوث ومراكز العصف الفكري في الصين، ولكنه يناقش بكثرة في مواقع مغلقة. هذا السبب هو الأثر السلبي الذي خلفته الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا في منطقة وسط آسيا. ففي رأي قطاع مهم من تلاميذ السياسة الدولية في الصين أن روسيا خسرت الرأي العام في معظم أو كل دول ما يسمى بمجموعة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، وهي المنظمة التي تضم في عضويتها الدول التي خضعت لقيادة موسكو في زمن الحرب الباردة سواء بوجودها في الاتحاد السوفييتي أو بتحالفها معه. يتحدثون في مؤتمرات الأكاديمية الصينية عن فشل روسيا في تسوية النزاعات الناشبة بين أعضاء في المنظمة مثل النزاع بين أرمينيا وأذربيجان ونزاعات أو تطورات أخرى كامنة أو ناشبة بين دول إسلامية في منطقة شمال وسط آسيا. هذا الفشل الروسي في تحقيق أو تعزيز أمن الإقليم يهدد مباشرة المصالح الحيوية الصينية وبخاصة مسألة الحماية الصينية لمشروعات الصين المشتركة مع دول الإقليم في مبادرة الطريق والحزام. أمن هذه المشروعات وانضباط تسييرها وصيانتها صار التزاما حيويا للصين يكلفها تكلفة باهظة وصار عائده يمثل جانبا مهما في أرصدة وإنجازات الصين الاقتصادية والخارجية.
بهذا المعني صار أمن المبادرة الصينية تحت عنوان الحزام والطريق سببا ثالثا يحث الصين على الاهتمام بصنع مشروع لأمن هذه المبادرة يضم في عضويته المقترحة دولا مثل نيبال وسريلانكا وباكستان والأرجنتين ومصر وإندونيسيا والسنغال والإمارات وتايلاند. جدير بالذكر أن الصين تتولى خلال العام الحالي رئاسة مجموعة البريكس، وقد تعمد الرئيس الصيني في آخر اجتماع للمنظمة التأكيد على أنها منظمة غير مغلقة بل مفتوحة. من المهم ملاحظة، بل ومتابعة، التأثير الكبير للدور الذي صارت تلعبه منظمة أوبك+ على الصعيد الدولي وبخاصة تصرفات فسرتها قطاعات إعلامية في الغرب بأنها تجربة تمرد ناجحة على الهيمنة الغربية التي تمارسها الولايات المتحدة ودول أوروبية بعينها. هل يعني ما سبق أن ضعف روسيا المتدرج هو في النهاية إضافة ملموسة إلى مكانة الصين؟. هو بالفعل إضافة، وقد تندم أمريكا وأوروبا في المستقبل إذا استمرتا في تعمدهما إضعاف روسيا لصالح الصين دون قصد.
السبب الثالث وراء اهتمام الصين بإقامة تكتل إقليمي والاعتماد على التحالفات الصغيرة، هو الحاجة إلى مصادر مستقرة للمواد الخام خاصة وأنها تستعد الآن لتجربة أخرى في سباق المنافسة مع الولايات المتحدة. معروف أن أمريكا تنوى إطلاق ثورة صناعية رابعة تحد بها من اندفاعات الانحدار الذي شاب واقعها الاجتماعي والاستقطاب السياسي والركود الاقتصادي. أظن أنه لا يوجد في الصين من ينوي الانتظار قرن أو اثنين قبل البدء في اقتحام الحداثة بتقليد الثورة الصناعية الغربية الأولى. أتصور أيضا أنه يجرى حاليا تعبئة مختلف الإمكانات بما فيها إقامة أحلاف وتكتلات إقليمية بعضوية محدودة للانتقال فورا أو بالتزامن مع أمريكا نحو ثورة صناعية رابعة في البلدين في آن واحد.
•••
لا تفوتني ملاحظة أن السباق في اتجاه ثورة صناعية جديدة يجر في ركابه ملامح صراعات أخرى ناشئة بين مختلف الدول المتقدمة، جوهرها قوميات فريدة في نوعها، ألا وهي القوميات التكنولوجية. الملامح ظاهرة للمعنيين وإن تعمدت قوى جبارة التقليل من شأنها أو التعتيم عليها. قوميات عابرة للحدود يقودها مواقع مثل وادي السيليكون أو أفراد فائقي القدرة الإبداعية والمالية مثل إيلون ماسك صاحب تسلا وتويتر ومشاريع رحلات سياحية للفضاء.
ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق