إذا أردنا أن نقرأ “الاوضاع العربية” علينا أن نتخذ من الخطاب الإسرائيلي الرسمي مرجعاً، مشفوعاً بالقرارات المتصلة بمصير الارض الفلسطينية المحتلة، يستوي في ذلك ما “أُعطي كهبة” للسلطة البلا سلطة، او ما تُرك أرضا مفتوحة امام المستوطنين المتوحشين، والمعززين بدعم جيش العدو وقوى امنه الداخلي.
لقد اعلنتها سلطات الاحتلال الاسرائيلي علنا: كل ارض فراغ لنا، وكل ارض مميزة عليها قرية فلسطينية عتيقة هي لمستعمراتنا الجديدة..
من الطبيعي والحال هذه أن ينطبق الامر على القدس، التي حسمت الادارة الاميركية “هويتها” حين قرر الرئيس الاميركي الفذ دونالد ترامب أن ينقل سفارة بلاده من تل ابيب إلى القدس، وان تشتري إدارته فندقاً كبيراً يقع على تلة من تلالها ليكون مقراً مؤقتاً للسفارة العتيدة، ريثما يتم بناء المبنى الاصلي.
وليس مستغرباً، والحال هذه، أن يبدأ الحديث الاسرائيلي عن “اختيار” ضاحية من ضواحي القدس لتكون عاصمة للسلطة التي لا سلطة لها، تمهيداً لشطب كلمة “فلسطين التاريخية” بعاصمتها القدس كوطن للفلسطينيين.
يتصل بذلك ايضاً مشاريع القوانين التي ينظرها الكنيست الآن والتي تقضي “بتناسي” الحق الفلسطيني في “بعض” القدس، ومواصلة بناء المستوطنات بما لا يبقى مساحة لقدس عربية، ولا لفلسطين على ارض اسرائيل المقدسة؟!
لقد اطمأنت السلطات الاسرائيلية، ربما بأكثر مما يجب إلى تردي الاوضاع العربية، والى التنازلات العربية المتوالية بأسرع من الصوت، عن الحقوق العربية في فلسطين، خصوصاً مع تسارع حركة الدول العربية في اتجاه الاعتراف بدولة العدو.. ولم يعد سراً أن معظم دول الجزيرة والخليج قد باشرت، فعلاً، الالتحاق بقطر في التمهيد لإقامة علاقات مباشرة مع اسرائيل. وفي الأخبار ما يفيد أن ما يشبه “القنصلية” بات قائماً، ولو بلا اعلان في دولة الامارات العربية المتحدة.. اما البحرين فلم يتردد ملكها في ارسال وفد سياسي بغطاء ديني اختار لرئاسته شيخاً معمماً من الشيعة لكي يتحدث عن “الاخوة” بين الاسلام واليهودية، في حين كان ملك البحرين يستقبل وفداً من أعيان اليهود الاسرائيليين الذين جاءوه للحديث عن المشتركات بين اليهودية والدين الحنيف.
وتتواتر الاخبار، يوميا، عن اتصالات ولقاءات بين مسؤولين سعوديين (غير الامير تركي الفيصل) ومسؤولين اسرائيليين.. وقد راجت شائعة عن زيارة قام بها ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان إلى الكيان الإسرائيلي.. وحتى لو كانت هذه الشائعة غير صحيحة او غير دقيقة، فالمؤكد أن اسرائيل تقدم “خدمات مميزة” للحرب السعودية ـ الاماراتية ضد فقراء اليمن في مدنهم وقراهم ذات الشميم التاريخي.
بالمقابل، لم يعد المسؤولون الاسرائيليون يتورعون عن الحديث عن “مستقبل مشرق” للعلاقات مع دول النفط والغاز العربية، ويحددون وجوه التعاون المفتوح في مختلف المجالات، بما فيها السلاح “حيث يمكن أن تحل تل ابيب محل واشنطن، وهذا يختصر المسافات والنفقات”.
واضح أن غياب المثلث العربي الذي كان، ذات يوم، قادراً ومؤهلاً على المواجهة، مصر والعراق وسوريا، قد فتح امام العدو الإسرائيلي ابواب الخليج العربي على مصراعيها…
بالمقابل فان الاصطفاف العربي في مواجهة ايران، والذي ضم إلى دول الخليج بعض دول المشرق العربي، قد وفر لهذا “المعسكر” ما يمكن اعتباره “القضية”، اذ بات العداء لإيران بديلاً من العداء لإسرائيل، ثم تطور الامر إلى تحالف، خصوصاً اذا ما تذكرنا “ثارات” العدو الاسرائيلي على “حزب الله” في لبنان، والذي قاتله بمجاهديه وبالدعم الايراني (السوري) حتى اخرجه منه مدحوراً في 25 ايار 2000..
وما نشهده اليوم من اشارات وتحركات ورسائل متبادلة يؤكد قيام “تحالف” ما بين دول الخليج (ربما باستثناء الكويت) مع العدو الاسرائيلي، تحت عنوان مواجهة “الخطر الإيراني”..
ولقد أظهرت الاحداث الاخيرة في بعض انحاء إيران، وأبرزها المواجهات بالنار بين النظام واصناف من المتظاهرين جمعهم العداء لحكم المرشد، مدى التحالف الوثيق بين الخليج بالقيادة السعودية (الاماراتية) والولايات المتحدة الاميركية ومعه العدو الإسرائيلي..
كان كل طرف يقاتل لغرض، لكن الولايات المتحدة بلسان رئيسها ترامب، أكدت التلاقي في المصالح والأهداف.. وبالطبع فإن اسرائيل كانت حاضرة وذات دور، خصوصاً وأنها تعرف إيران ما قبل الثورة معرفة وثيقة، وكانت سفارتها في طهران من أكبر السفارات فيها، وقد سلمتها سلطات الثورة بعد نجاحها إلى منظمة التحرير لتكون سفارة فلسطين. ومعروف أن علاقات تحالف سياسي ـ اقتصادي ـ عسكري ومخابراتي كانت تربط بين طهران الشاه واسرائيل.
طبيعي، والحال هذه، أن يصير العراق ومعه سوريا (وبالاستطراد “حزب الله” في لبنان) في دائرة الاستهداف.. وهكذا يصير المشرق العربي بعامة ارض صراع، ويقوم، موضوعياً، نوع من الحلف متعدد القطب تحت القيادة الاميركية يتلاقى فيه اهل النفط العرب بعنوان السعودية والامارات (ومعهما البحرين..) والعدو الاسرائيلي في جبهة واحدة ضد ايران ومن معها.. وان تصبح واشنطن (ومعها لندن) هي عاصمة التوجيه للانتفاضة ضد الحكم في إيران الثورة الاسلامية.
انها حرب اميركية ـ اسرائيلية جديدة على “مركز التمرد” المتبقي في هذا الشرق الذي انطفأت فيه (او أطفئت، لا فرق) نار الثورة وإرادة التغيير.. خصوصاً وان عواصم الفعل مغيبة إما بمعاهدات كمب دافيد مع العدو الاسرائيلي تحت الرعاية الاميركية، او بفعل الاعتراضات الداخلية التي تمت تغذيتها بأخطاء الانظمة الحاكمة كما بتسليح عصابات القتل الجماعي (مثل “داعش” واخواتها من “النصرة” إلى “جند الشام” وسائر مشتقات “القاعدة”).
ومن البديهي الا يقف الاتحاد الروسي موقف المتفرج، بينما حلفاؤه بالرغبة او بالاضطرار، يواجهون خطر الاجتياح الاميركي للمشرق عموماً من حدوده مع إيران وحتى ساحل البحر الابيض المتوسط، حيث قاتل جيشه مع الحرس الثوري الايراني (و”حزب الله” في لبنان) ضد توغل العصابات المسلحة رافعة الشعار الاسلامي في المشرق العربي وصولاً إلى مصر وليبيا..
لقد أعاد ترامب الولايات المتحدة إلى حقيقتها كإمبراطورية تطمح إلى الاستيلاء على العالم كله، وعلى المشرق العربي عموماً ومعه إيران، ومحاصرة روسيا بوتين الذي يخوض معركة تجديد رئاسته ولاية رابعة.
وهي حرب مفروضة، النصر الاميركي فيها يكاد يكون مستحيلاً، لكن هزيمة المشروع الاميركي المعزز بالدعم العربي (أهل النفط) المفتوح تتبدى اقرب إلى المنطق والحسابات الباردة.. وان كانت المرحلة المقبلة ستكون قاسية وهائلة التكاليف.
تنشر بالتزامن مع السفير العربي