غزة ـ حلمي موسى
ما من عسر إلا وبعده يسر. وعلى امتداد مئة تسعة وثلاثين يوما، مررنا بعسر شديد، واليسر آت لا محالة، وهو قريب، وأملنا بأنّ تضحيات شعبنا، وتمسكه بحقوقه، لن تضيع هدرا.
***
كثيرة هي الإشارات المتناقضة التي تطلقها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بشأن موقفها من الحرب الوحشية التي تشنها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، وخصوصا في غزة. فبالإضافة إلى التغطية المتكررة على جرائم العدو في المحافل الدولية، وخصوصا في الأمم المتحدة، وكان آخرها استخدام حق النقض (الفيتو) ضد مشروع القرار الجزائري لوقف الحرب، تحاول هذه الإدارة في الفترة الأخيرة، الإيحاء بوجود خلافات معينة مع الإسرائيليين.
وفي حين أن واشنطن تقف إلى جانب إسرائيل في “محكمة العدل الدولية”، وترفض الاتهامات الموجهة إليها بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني في غزة، وتعارض موقف الرئيس البرازيلي لولا دي سيلفا، إلا أن هناك مساع للإيحاء بأن بايدن، ولاعتبارات مختلفة، غيّر موقفه وبات أقرب إلى الموقف الدولي من الحرب الإسرائيلية، بالإشارة إلى تكرار استخدامه لعبارة وقف إطلاق النار في الفترة الأخيرة.
وبالفعل، تكررت مؤخرا على لسان بايدن عبارة “الحاجة إلى وقف لإطلاق النار” في قطاع غزة، بعد شهور من دعواته المستمرة إلى “هدنة”. ما دفع بعض وكالات الأنباء الدولية إلى اعتبار أن هذا التغيير الطفيف في الموقف يجعل بايدن أقرب إلى الموقف العالمي، وإلى مواقف منتقديه داخل حزبه الديموقراطي.
لكن، من المعروف أنه، وبأوامر من بايدن، استخدمت البعثة الأميركية في الأمم المتحدة حق النقض ثلاث مرات في مجلس الأمن الدولي ضد مشاريع قرار لوقف فوري لإطلاق النار. ومع ذلك، عرضت واشنطن مشروع قرار يدعو إلى وقف “مؤقت” لإطلاق النار لتمرير المرحلة الأولى من صفقة تبادل الأسرى وفق “مقترح باريس”، ولمنع هجوم بري واسع على رفح.
وعلى الرغم من أن مشروع القرار يدعو للمرة الأولى إلى “وقف إطلاق النار” – إلا أنه جاء ضمن صياغة حذرة لا تدعو إلا إلى وقف مؤقت لإطلاق النار في “أقرب موعد عملي”، وهو يربط وقف النار بصفقة تبادل الأسرى، ويعرب عن معارضته للعملية الإسرائيلية في رفح.
وفي السياق ذاته، بدا وكأن اللهجة الأميركية تزداد حدّة، عندما حذّرت وزارة الخارجية الليلة الماضية من أن أي عملية عسكرية في رفح، في ظل الظروف الحالية، مع احتشاد أكثر من مليون لاجئ في المدينة القريبة من الحدود المصرية، سيؤدي إلى “كارثة”.
وكان بايدن قد أعلن في الثامن من شباط الحالي، في ما اعتُبر الانتقاد الأقوى الذي يوجهه للعدو، أن رد إسرائيل في غزة قد “تجاوز الحد”. وأوضح حينها أنه يضغط “بشدة” من أجل وقف لإطلاق نار يتعلق بالرهائن، مضيفا “كما تعلمون، أعمل بلا كلل من أجل هذا الاتفاق”.
وبعدها، قال بايدن إنه أجرى محادثات مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بشأن وقف إطلاق النار، وكرر كلامه عن “ضرورة إعلان وقف مؤقت لإطلاق النار لإخراج الرهائن”.
ونقلت وكالات أنباء عن “باحث كبير” في مؤسسة “كارنيغي للسلام الدولي”، قوله إن التغير في خطاب بايدن لا يعكس تغييراً كبيراً، لكنه يشير إلى قلق الإدارة إزاء هجوم محتمل على رفح.
ومن الواضح أن “مواضع التناقض” الظاهرية ليس فيها شيء من التناقض إلا بين مواقف بايدن الفعلية وبين تصريحاته العلنية المجانية. وتكفي الإشارة إلى ما تعلنه الإدارة الأميركية من نية للاعتراف بدولة فلسطينية وسعي لبلورة “خطة سريعة” لتسوية إقليمية تقوم على التطبيع، فيما تستمر في صمتها إزاء تحركات نتنياهو وأعضاء حكومته، وتصريحاتهم العلنية المناهضة للخطة الأميركية.
كما أن إدارة بايدن، التي تسرب للصحافة أنباءً عن عرقلة تزويد إسرائيل بالأسلحة والذخائر أو ربط إرسالها بشروط معينة، تُسرع في إيصال الأسلحة والذخائر للعدو، بطرق تتعارض حتّى مع موجبات القانون الأميركي نفسه، الأمر الذي يبيّن أن التسريبات حول استياء بايدن وإدارته ليست أكثر من أخاديع لإضعاف المعارضين للرئيس الأميركي داخل الحزب الديموقراطي، ولتعزيز فرص إعادة انتخابه.
بالإضافة إلى ذلك كلّه، تعمل إسرائيل بجهد واضح من أجل تغيير جوهري في واقع قطاع غزة، سواء لجهة إنشاء حزام أمني على طول حدوده، أو لجهة إنشاء محور فاصل بين شماليه وجنوبه. ولم تضعف الاعتراضات الأميركية وإعلاناتها المتكررة عن رفضها لتغيير حدود القطاع ومساحته أو فصله، من الجهد الإسرائيلي المتواصل سواء لإنشاء الحزام الأمني عبر تدمير آلاف البيوت والمزارع، أو لإنشاء محور الفصل بين شمالي القطاع وجنوبه.
وقد كتب جيرمي سكاهيل في موقع “انترسبت” الأميركي موضحا أنه “بينما يروج البيت الأبيض لروايته المُتعِبة حول “فقدان صبر” بايدن، فإنه يظل ملتزماً بحرب إسرائيل على غزة”، مشدّدا على أن الموقف الحالي لإدارة بايدن بشأن الحرب على غزة يتمثل في أنه “لا توجد جريمة حرب إسرائيلية متطرفة لدرجة تدفع جو بايدن إلى التفكير في وقف إطلاق النار، ناهيك عن قطع تدفق الأسلحة الأميركية والدعم المالي” لحرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية.
ولفت سكاهيل إلى موافقة مجلس الشيوخ الأميركي يوم الثلاثاء الماضي على مساعدات عسكرية إضافية بقيمة 14 مليار دولار لإسرائيل لمواصلة احتلالها وقصفها للفلسطينيين في قطاع غزة.
وأكد أن بايدن يبقى متمسكا برفضه للمطالب العالمية بالوقف الفوري للهجوم العسكري الإسرائيلي على السكان العزّل الذين يتضورون جوعا، كما أنه لم يكتفِ بالرفض القاطع لما يشاع عن أنه يستخدم التهديد بوقف المبيعات العسكرية لإسرائيل، بل تقوم إدارته حاليًا بإعداد شحنة جديدة من الذخائر القوية لإرسالها إلى العدو.
وشدد الكاتب على أنه “مع اقتراب عدد الضحايا في غزة من 30 ألف شخص – من بينهم أكثر من 13 ألف طفل استشهدوا بنيران إسرائيلية – يشعر خبراء الدعاية في البيت الأبيض بالقلق بشأن الانتخابات الأميركية لسنة 2024. وهم يحاولون يائسين إظهار صورة عامة للتعاطف مع شعب غزة والترويج لفكرة أن بايدن قد وصل إلى نهاية صبره مع حليفه نتنياهو.” وتسعى حملة إعادة انتخاب الرئيس إلى إعادة الاستقرار إلى خطابه العام والتعامل مع سلسلة كارثية من التصريحات العامة التي أدلى بها في الفترة الأخيرة، مثل قوله إنه التقى مؤخرًا بزعماء العالم “المتوفين منذ فترة طويلة”، بالإضافة إلى تقرير المحقق الخاص الذي طرح علامات استفهام حول قدراته العقلية،
ولفت سكاهيل إلى أنه منذ أن قضت “محكمة العدل الدولية” رسميًا بوجوب المضي قدمًا في دعوى الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل، وأصدرت سلسلة من الأوامر الطارئة التي تحذّر إسرائيل من المشاركة في أعمال إبادة جماعية، كثفت حكومة العدو عملياتها العسكرية في غزة، وفرضت حصارًا على المستشفيات وقصفت المواقع المدنية.
وذكر بأن إسرائيل تستعد لغزو بري واسع النطاق محتمل لمدينة رفح، التي تقع على الحدود مع مصر وتعرضت لقصف إسرائيلي مكثف في الأيام الأخيرة، مما حوّل المدينة إلى فخ قاتل غير آمن مساحته 25 ميلاً مربعاً يحاصر في داخله الآن مليون وأربعمئة ألف فلسطيني – طلبت منهم قوات الاحتلال النزوح إليه على أساس أنه منطقة آمنة.
وإذا لم يكن ما سلف كلّه كافيا لتبيان التناقض بين أقوال بايدن وأفعاله، إليكم هذا الخبر: استضاف رجل الأعمال الإسرائيلي حاييم سابان الرئيس بايدن في منزله في لوس أنجلوس يوم الثلاثاء، في إطار حفل لجمع التبرعات لحملته الانتخابية الرئاسية.
وقبل الحدث، وبعد اختبار لفيروس كورونا، تبين أن نتيجة سابان إيجابية وما أرغمه على التغيب عن الحدث. وبالرغم من ذلك، أجرى محادثة عبر تطبيق Zoom مع بايدن تناولت، من بين أمور أخرى، الحرب في غزة والعلاقات مع إسرائيل.
وقال سابان لموقع “والا”: “لن أعطي للعالم تفاصيل محددة حول المحادثات الفردية التي أجريها مع الرئيس بايدن، لكن يمكنني القول إن محادثتنا أعادت التأكيد، بالنسبة لي، على حقيقة أن الرئيس بايدن يهتم بشدة بأمن إسرائيل ويريد ضمان أن تبقى دولة يهودية وديموقراطية ومزدهرة”.