يولد المرء عبداً في الطائفة. يصير فيها ومنها ولها. يعيش جزءاً منها. ينتهي فيها من المهد الى اللحد. وقبل الولادة، حين يكون حادثة بيولوجية، وعند التسجيل في لوائح النفوس، وبعد الموت حين يُدفن بعد صلاة تعترف بانتهاء وجوده. يبقى المرء في الطائفة خلال حياته؛ لا خيار له بغيرها. السجل يقول ذلك. ما غير السجل لا يعوّل عليه. يخضع المرء لضرورات السجل في فكره وإيمانه وعقيدته وتصرفه السياسي. الويل ثم الويل إذا حاول الخروج من الطائفة. يلقى عقاب جميع من حوله، إن لم يكن أكثر. البعض يحكم عليه بحدّ الردة. جزاؤها القتل.
هو خاضع في كل ما يعمل وما لا يعمل، ما يفكر وما لا يفكر، في تحديد هويته وتحديد هوية الآخرين، لحكم الضرورة. ليس له أن يختار. الطائفة تختار. عبودية الخضوع والاستسلام الكامل للجماعة تلاحقه أينما ذهب. هو عبد لجماعة الطائفة. عبودية لا فكاك لها.
تبدأ الطائفة فرعاً من الدين. تتطوّر لتصبح فرعاً في السياسة. الإيمان خارج الموضوع. ليس مهماً أن تؤمن أو لا تؤمن. المهم تأدية الطقوس الدينية. أن تقوم بالحركات الجسدية والنطق بما يعده لك الجهاز الديني. الإرادة لهم. التفكير اختصاصهم. عبوديتك تفضي بذلك. وعندما تنتهي الطائفة الى السياسة، يكون ذلك باسم الدفاع عن الجماعة أو السلطة. كل ذلك خوفا من العالم الخارجي مهما كان. يصير الخوف قاعدة تشكيل الطائفة. هو المضمر رغم العقيدة ورغم أن الظروف العامة في البلد لا تبرر الخوف. الخوف لحمة تضامن الجماعة. الخوف من الآخر مهما كان. انت تحدد نفسك. ترسم هويتك عن طريق الآخر. الآخر هو ما ليس أنت؛ أنت ما ليس هويتك. يصير هو أنت. هو المضمر؛ تصير أنت هذا الآخر دون أن تدري. تصير السالب للآخر. البنية تخفي تحتها هويتك السالبة.
لا بدّ للطائفة من قيادة. بعد تطورها تنقسم القيادة الى دينية، مختصة بتحديد وتفسير العقيدة ومتطلباتها؛ وسياسية مختصة بما يُسمى حقوق الطائفة وواجباتها. في أغلب الأحيان يُناط بالقيادة السياسية الشأن الدفاعي. يتوهمون أن الخطر الداهم يحيط بالطائفة دائما؛ ومن الضروري الدفاع، أو على الأقل الاضطلاع بمسائل العلاقة مع السلطة الحاكمة. بما أن الخوف هو المكوّن الأساسي للطائفة، يصير الى قيادتها السياسية الاعتبار الأوّل وتصير الطائفة فرعاً من السياسة بعد أن بدأت فرعاً من الدين أو المذهب. ربما تعددت الرؤوس السياسية بسبب الصراعات التنافسية. تنقسم الطائفة الى ولاءات سياسية: جماعات أشبه بالقطعان على رأس كل منها كبش. لا تنقسم الطائفة في الشؤون الدينية والمذهبية. أو على الأقل فيما يتعلّق بالشؤون الكهنوتية أو العلمائية. وإلا تنقسم الى طوائف من جديد. يصحّ الانقسام بالسياسة ولا يصحّ الإنقسام بالدين، رغم أن تفرّع الطائفة ديني بالأصل. تسيطر السياسة على الطائفة وتصير هذه تشكيلات سياسية إلا عندما يوحدها الكبش الأكبر. لا يصل الكبش الأكبر الى مبتغاه في السلطة السياسية إلا عندما يبالغ في تحريضه على خصومه في الطائفة وفي الطوائف الأخرى. الطائفة ماكينة تحريض دائمة. مبدأ الخوف يقود الى مصير واحد هو التحريض؛ وما معناه الحرب الأهلية الدائمة، سواء كانت باردة (بالكلام وحده) أو ساخنة (بالكلام والسلاح). لكن النتيجة دائماً واحدة وهي الخراب والدمار، أو على الأقل، توقف النمو وامتناع الازدهار. الطوائف بالضرورة لعبة ربح-خسارة والنتيجة صفر. ما تكسبه طائفة تعتبر طائفة أخرى أنها خسرته. النتيجة بالنسبة للمجتمع صفر. نادراً ما يعتبر مشروع أو تجارة عند طائفة ما مكسباً للجميع. تزدهر طوائف على حساب طوائف أخرى. لا يؤدي ازدهار طائفة الى ازدهار المجتمع. الذين لم يصبهم الازدهار ينظرون الى أنفسهم بعين الغبن. والغبن يعني أنه مقصود. هي مؤامرة تحاك خيوطها لدى الذين أصابهم الازدهار. يصير المجتمع مجموعة من المؤامرات. عندما تتهيّأ طائفة للصعود، بالأحرى الصدام، تتغيّر مصطلحات الغبن الى الحرمان، للتأكيد على أن المسألة حقوق مهضومة أو مستلبة بالمؤامرات وبسياسة النظام الذي لا بد أن يحكم من طائفة تلو أخرى. لا بدّ من رجال دولة، وتعني الدولة بالنسبة لهم البداية والنهاية؛ الدولة على أنها الاطار الوحيد الناظم للمجتمع. الدولة التي هي شرط لما عداها، ولا شرط عليها. تبقى الدولة نظاماً للسلطة أو التسلط؛ تفقد معناها الأصلي أو ما يجب التوصل إليه. التناقض بين الدولة (كإطار للمجتمع ناظم له) في تناقض دائم مع الطائفة (الطوائف). لا تنشأ الدولة إلا بالقضاء على الطوائف. بقاء الطوائف هو غياب الدولة. كل من يتحدث عن غياب الدولة يعبّر عما في ضميره الطائفي. بالأحرى عن إرادته في أن لا تكون الدولة دولة.
تستحيل الدولة مع وجود الطوائف؛ كلما ازدادت هذه قوة واختلّ الميزان لجانبها تراجعت الدولة وهيبتها وقدرتها على الانغراز في ضمائر الناس. هي ليست دولة فيدرالية. ليست فيدراليات طوائف. الفرق بينها وبين الفيدرالية التي تتشكّل من ولايات أن هذه جغرافية لا تغيّر شيئاً في الانتماء والهوية. فيدرالية الطوائف تتعدد فيها الانتماءات والولاءات الايديولوجية التي تتنافى مع الدولة المركزية. الدولة الفيدرالية لا تلغي المركزية ووحدة الانتماء والولاء. لا تلغي المواطنية؛ الفيدرالية تفعل كل ذلك وأكثر. في الفيدرالية الجغرافية تقسيم عمل ووظائف بين الدولة المركزية والولايات. وهناك تكامل يجعل اللامركزية دعماً للمركزية. استكمالاً لها، لا نفياً لها. دولة الطوائف ليست تقسيم العمل بل تقاسم الدولة. الدولة الفيدرالية الجغرافية لا تفقد هيبتها وسلطتها. فيدرالية الطوائف تجعل الدولة خادماً ذليلاً عند الأكباش وقطعانها. تفقد الدولة دورها كإطار ناظم للمجتمع. يصعب تنظيم الفوضى في “اتحاد” الطوائف الفديرالي.
فيدرالية الطوائف تؤدي حكماً الى دولة ميثاقية. يُعقد الميثاق الوطني بين الطوائف. تنتزع كل منها حق الفيتو وتعطيل الدولة حين تشاء؛ تؤخذ القرارات الأساسية بالإجماع. لا يجرؤ أحد على هزّ دعائم الإجماع خوفا من هبوط الهيكل. صحيح أن الإجماع هو للأكباش، لكنه يمنع الانقسام الليبرالي الى موالاة ومعارضة. يمنع السياسة والحوار الجدي حول القضايا. لا يؤخذ قرار مهم إلا باتفاق الأكباش. تمتنع الشفافية. يسهل الفساد، بل ينتشر الفساد ليصير أساس السلطة السياسية وتدمير الدولة. يغيب الحكم حسب القانون، قانون الدولة. يصير القضاء مقيّداً بسلطة الطوائف. تستبد كل طائفة بالدولة والنظام كما تستبد بأتباعها. تفقد الدولة هيبتها ويفقد الفرد مواطنيته. لا مواطن حقيقياً إلا في نظام يكون الانتماء والولاء فيه للدولة كأولوية على كل شيء. وتكون سلطة الطوائف (إذا بقيت سلطة والأفضل إلغاؤها) ملحقة بالدولة. وإذا بقيت يكون دورها تنظيمياً بموجب سياسات ترسمها الدولة ونظامها. لا خطوط حمرا تضعها الطوائف وأكباشها. الخطوط الحمر تضعها الدولة على الطوائف وأكباشها لا العكس. الطائفية نظام عبودية مستترة. يخضع فيها الفرد للطوائف وأكباشها وتنظيماتها البيروقراطية من دون أن يشارك في الدولة. يشارك في الطائفة إذا أُتيح له، ولا يصير مواطناً في دولة. تفقد الديمقراطية، وحتى الليبرالية، معناهما.
النظام الطائفي مليء بالأسرار خال من الأخلاق. يضمر الفرد ما لا يظهره. يتحدث بلغتين، واحدة لأبناء الطائفة وأخرى لأبناء الطوائف الأخرى. المضمر هو الشر للآخرين والخير للطائفة. المعلن هو خطاب الخير للجميع. يتحدث الناس بخطابين، المعلن والمضمر، في أنظمة الاستبداد والأجهزة الأمنية. أن يضمر الانسان غير ما يظهره يعني فساد ما يضمر وما يظهر. يعني أن يتكلم الإنسان ويتصرف ليس بما يمليه ضميره. الأخلاق تنبع من الضمير وحده. الدين وديعة لدى الأخلاق وليس مصدراً لها. الضمير الفردي هو المصدر لها، أولاً وأخيراً. يتمزّق ضمير الفرد كما تتمزّق الدولة. يخض الجميع لاستبداد الطائفة. بل استبداد أكباشها. استبداد الطائفة ينتهي الى استبداد الأكباش بأتباعهم من طائفتهم.
نفاق الطوائف وأبنائها عدو للمجتمع؛ يشرذم المجتمع. في الدولة الحديثة، الغاية تبرر الوسيلة إذا كانت الوسيلة هي القانون. قانون الدولة ودستورها. في الدولة الطائفية الهدف يبرر الوسيلة: الهدف لصالح الطائفة. الوسيلة هي الخروج عن قانون الدولة. تصير كل أفعال النهب والسرقة، وحتى الجرائم الواضحة، مبررة لصالح الطائفة، أو بالأحرى تضع الطائفة وأكباشها خطوطا حمرا على تطبيق القانون. فهو إرادة الأكباش.
يخالفون القانون لصالح إرادات أكباش الطوائف وعشوائيتها. يصير كل شيء في المجتمع عشوائياً، غير منتظم في قانون. تفقد الدولة والمجتمع فعاليتهما. الشغل يصبح مسألة ثانوية. أنت متكفّل بالولاء للطائفة. والطائفة متكفلة بك، نظرياً على الأقل.
مجتمع النفاق والفساد والعشوائية تعبّر عنه أجهزة السلطة. هذه لا تستطيع ضبط المجتمع حسب القانون. “قوانين” الطوائف تعتبر سماوية. يستعان على الخصم بالدين. الدين وسيلة لتبرير أهداف شريرة وغير أخلاقية. سياسة مقصودة. على الأقل ينتج عنها إخلاء المجتمع من الأخلاق. يستحيل وجود الأخلاق من دون تطبيق القانون. القانون أساساً مستمد من قواعد أخلاقية. خلو الدين والمجتمع من الأخلاق يصيب المجتمع لدرجة إجباره على القعود عن الإنتاج. كل فرد يجري وراء مصلحته الأنانية من دون أن يأبه بالآخرين. كل فرد ينتظم حسب القوانين إذا كانت تراعى في المجتمع والدولة؛ العكس أيضاً صحيح. في النظام الطائفي لا هذا ولا ذاك.
الطائفة والطائفية مصدر الفساد الأهم في المجتمع. هذا الفساد الناتج عن خلخلة الدولة في وعي الناس وفقدان هيبة النظام في تعامله مع الناس.
الأمر واضح في أنظمة الاستبداد السياسي. في غيرها تؤدي الطائفة والطائفية الى النتيجة عينها. عشوائية تخفي تحتها عبودية المرء الذي لا فكاك له من طائفته.
ليس هناك طوائف مغبونة أو محرومة. هناك طوائف يتلاعب بها أكباش بعقد الاتفاقات والتسويات لتقاسم المغانم. المغانم دائماً على حساب الدولة والمجتمع. لا بد أن يضمن الأكباش مصالحهم المالية من أرباب المال وأصحاب المصالح على حساب طوائفهم. وفي معظم الأحيان بالتناقض معها. نظام رأسمالي لا بد أن يكون فيه رابحون وخاسرون كما في كل تشكيلة اجتماعية. الطائفة تشكيلة اجتماعية إذا انفردت. ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها. تتفرّد كل طائفة بتشكيلة اجتماعية تدّعي أن لها خصوصية يدافع عنها أكباش السياسة واختصاصيو الدين (رجال الدين). يتعاون الطرفان على ما يضمن ولاء الناس لهم لا للدولة.
كل ذلك يصيب الدولة والنظام بالعجز الروحي والمعنوي أولاً (تشوّش الوعي)، والعجز المادي ثانياً. الخدمات والمرافق العامة تتقاسمها الطوائف. ومالية الدولة لا يمكن حصرها لأن كل طائفة تقبض على جزء منها. ليس في أي من هذه البلدان العربية موازنة محددة مطروحة للنقاتش العام بوضوح وشفافية لأن الطوائف لا تكشف أوراقها. هي تخفي المضمر وتعلن ما لزوم له. المضمر هو الأساس لكل سياسات الدولة بما في ذلك الموازنة. هذه معناها ضبط الايرادات والنفقات. أما الطوائف، وهي تمتلك السلطة الحقيقية، فهي لا تهتم إلا بحصتها وإخفاء ذلك خوفاً من جشع الطوائف الأخرى.
نرى الطبقات الكادحة مشرذمة لأن معظم العاملين في مختلف القطاعات يدفعهم وعيهم ومصالحهم للتبعية للطوائف وأكباشها. ضعف النقابات العمالية لدرجة تقارب من الصفر مؤشّر على ذلك. الأحزاب اليسارية، ومنها الشيوعي، لا يُسمح لهم بدخول أروقة الدولة والبرلمان، إن وُجِدا.
مع الطائفية لا يكون البلد نموذجاً لتعايش الطوائف (أو المكونات الاجتماعية). بل يكون مجالاُ للتنافس الذي يؤدي بالدولة ونظامها الى الانهيار دائماً. بلد يعيش على حافة الانهيار الدائم لا ينتظر منه أن يكون طبيعيا أو مستقراً. هو في حالة حرب دائمة. باردة يمكن أن تتحوّل الى ساخنة. تتوالى الحوادث الأمنية في جميع المناطق. يخمدها الجيش. هل يراد للجيش أن يحكم؟ وإذا حصل ذلك فما هو الفرق بين بلد عربي وآخر؟ كل عناصر الاستبداد السياسي موجودة سوى استيلاء العسكر على السلطة السياسية. انهيار السلطة السياسية المبرمج، أو على الأقل تباعدها وصراعاتها غير المجدية، والعشوائية في القرارات، ومخالفة السلطة السياسية للقوانين وللدستور، وعدم انضواء الناس في ولاء موحد للدولة، وعدم وجود موالاة ومعارضة لكل منهما حدود واضحة، وتقاسم المغانم، ومحاباة الأقارب، ونهب من دون حياء، وارتفاع البطالة، وانتشار الاحباط المتحوّل الى قلق، الخ…، كل ذلك يؤذن بنشوء دولة أمنية تلاقي قبولاً بحجة ضرورة الاستقرار.
الطائفية استلاب للحرية. قاعدة للعشوائية والخروج على القانون وقاعدة لإلغاء السياسة والحوار بين الناس. الحوار المفقود بين فئات وطبقات وأفراد المجتمع، مفقود أيضاً بين الطوائف. قاعدة الطائفية هي الابتزاز. كبش الطائفة يبتز أتباعه، وكل طائفة تبتز الأخريات.
منذ أن يولد الإنسان تصادره الطائفة. تزرع في دماغه وعياً مشوّهاً، وتسلبه حريته، وتضعه وديعة لدى أكباشها. تتضاءل الحرية في مجتمع الطوائف كلما ازدادت سلطة هؤلاء. تزداد هذه السلطة على حساب نمو دور الدولة. مع ضعف الدولة تزداد الطوائف شراسة حيال بعضها البعض. يتحوّل كل منها الى وحش كاسر، والدولة الى ركام فاقد الترابط، والفرد الى ظل لما يجب أن يكون عليه.
عبودية من نوع جديد. مجتمع أقنان يعملون لدى الطوائف. استبداد من نوع آخر.
(يتبع)
تنشر بالتزامن مع مدونة الفضل شلق