ما من مرة طرحت فيها مسألة »الإصلاح« في هذه »الدولة قيد التأسيس« إلا ووضع الناس ايديهم على قلوبهم خوفا من السياسة والسياسيين وقدرتهم على إجهاض المحاولة الجديدة وقلبها الى عكس المرجو منها.
ذلك ان التجارب السابقة دلت على ان معظم المحاولات الاصلاحية قد انتهت بتحميل الدولة اعباء اضافية، كأجور ومرتبات وتعويضات ومخصصات للموظفين الجدد الذين يؤتى بهم لضخ دم جديد في الادارة العجوز بغير ان يخرج منها القدامى الذين توجه إليهم تهمة إعاقتها!
يمكن القول، بكثير من راحة الضمير، إن الجهاز الاداري لهذه الدولة هو فعليا التراكم التاريخي لمجموعة من المحاولات الاصلاحية التي ابقت »القديم« او هي عجزت عن »صرفه« ثم أضافت إليه الجديد.
وإلا فكيف يمكن ان تفسر هذا التضخم الهائل في جهاز الموظفين، على اختلاف اصنافهم ودرجاتهم وطبيعة التعاقد او التعاون او التعامل معهم، من داخل »الكادر« او من خارجه، والذي يصل في بلد صغير كلبنان الى معدلات غير معقولة (210 آلاف موظف يخدمهم 5،3 ملايين مواطن!!).
إنه جهاز هائل كونته »الدول« التي تعاقبت على الحكم في هذه الدولة قيد التأسيس، حتى لتكاد تؤرخ للحكام من خلال من وظفوهم او رفّعوهم أو وضعوهم بالتصرف، على اختلاف العهود.
لم تعش المحاولة الإصلاحية الجدية، بل المحاولة الجدية اليتيمة لبناء مؤسسات لدولة الزعامات والمراجع والطوائف هذه، اكثر من سنوات معدودة (عهد فؤاد شهاب، الذي انتهى بعكس ما بدأ به او قصد إليه).
لسنوات قليلة توقفت السياسة عن إفساد الادارة، متوسلة في الغالب الاعم، السلاح الطائفي، ثم عادت الى سيرتها الاولى، فلما تفجرت الحرب الاهلية سقطت القوانين والشرائع والاعراف وباتت »الدولة« مرتعا للاقوى سلاحا والأصرح طائفية ومن ثم الاعظم فسادا وإفسادا.
بعد توقف الحرب الاهلية تمت اعادة البناء على عجل وبمن حضر، فلما عاد الغائبون أو الذين غيَّبوا أنفسهم أخضعت الادارة لأكثر من جراحة لكي يتوسع رحمها فتتسع للجميع، وتصبح »الدولة« أكبر رب عمل بالمطلق لأكبر نسبة من العاطلين عن العمل (فعلياً) بالمطلق.
استيعاب بعد استيعاب، واحتواء بعد احتواء، ومحاولة للتوازن بعد محاولة على طريقة »الجبنة والقطتين«، فإذ ادارة الدولة تنوء بأثقال الذين أدخلوا الى نعيمها اما لسحبهم من الشارع، وإما لإعادة تأهيلهم، وإما لرفع الغبن التاريخي، واما »لتصحيح اخطاء من جاءوا قبلنا«.
الذريعة كانت »سياسية« دائما، في الظاهر، وإن ارتكزت في عمقها على الطائفية.
ولأن السياسة المصفحة بالطائفية معادية بطبيعتها للاصلاح، فقد ناءت الادارة بأثقال »الدول« التي ادخلت »رجالها« اليها، وعجزت نهائياً عن أداء مهماتها الطبيعية، إذ تم تعطيل القوانين والتعليمات والاعراف بقوة الأمر الواقع الطائفي واستقلالية كل وزير بوزارته بحيث صارت »دولته« يقرر فيها ما شاء مع »التوكيد والاصرار« و»على مسؤوليتي«!
ولأن »السياسة« بالمعنى التقليدي السائد مجافية للعدالة والعلم وتعتمد على النكاية والاحقاد والتشهير بالحكم السابق، أي حكم سابق، فقد صارت كلمة »الاصلاح« مرادفة للانتقام، وإزاحة »الخصوم« عن موقع القرار لتسليمه الى المناصرين »المخلصين« والذين يجيئون مزوّدين بخبرة معتقة في كيفية تحويل المال العام الى مال خاص والى حقوق للطائفيين لا يمكن تعديلها وإلا طار مع المال العام »السلم الأهلي«.
هل تنجح المحاولة الجديدة التي تطل والحكومة قد اعدت لها كما تقول القاعدة القانونية سلفا عبر مجموعة من مشاريع القوانين، وتم تحصينها سياسياً بمنع المشاغبة عليها من الداخل، أما »الخارج« فلا يحتاج الى تحريض او الى عناوين جديدة لهجومه المفتوح؟!
ان الكل أمام الامتحان الآن: مؤسسات الحكم بالرؤساء والمجالس وأهل السياسة من الطوائفيين او تجار الطوائف من السياسيين، فمن حمى فاسدا فهو أصل الفساد، ومن منع وقف الهدر فهو بين المتسببين في اغتيال الغد بالنسبة لشباب لبنان الذين يتركونه الى أي مكان يقبلهم فيبيعونه نتاج عقولهم وجهود سواعدهم التي ضاقت عنها وعنهم بلادهم فلفظتهم الى المنافي البعيدة.
وهو ليس الامتحان الأول، وما سبق من تجارب ليست مشجعة.
مع ذلك فلا بد من المحاولة.. ولو طال السفر، مع التوكيد على ان الاصلاح فعل سياسي وليس مهمة ادارية.
نشر هذا المقال في جريدة “السفير” بتاريخ12 آذار 2001