قال لي وهو يضحك: لقد عبأتها في صناديق، واستأجرت شاحنة كبيرة (سيكس ويل)، إلى منطقة جبيل، فطحنتها!
لم أفهم النكتة لأنني لم أعرف تفاصيل الواقعة، فاستطرد الناشر الصديق يقول:
تعرف أنني كنت أحد المبرزين في مجال نشر التراث الاشتراكي. كانت لديَّ عشرات الكتب عن الثورة الاشتراكية العظمى، عن لينين، عن ماركس والماركسية، عن التأميم وسائر وجوه التطبيق الاشتراكي، وعن الاشتراكية العربية..
عاد إلى الضحك وهو يقول: لقد باتت عبئاً. تشغل المخازن التي تكلفنا مبلغاً محترماً، من دون أن تجد مشترياً واحداً. وكان لا بد من قرار، وهكذا جئت بواحدة من الشاحنات الضخمة وحملتها إلى ”مطحنة” تحول الأفكار والعقائد والإيديولوجيات إلى كرتون ينفع لعلب الهدايا وعلب الأحذية، فطحنتها وبعتها لمعمل الكرتون.
سمع صوته في كلماته الأخيرة، ففرح بالمفارقة التي لمعت خلال حديثه، فانفجر وهو يقول: عندما تصبح الأحذية مكان الرؤوس، لا يضير الأفكار أن تصبح علباً للأحذية، في أي حال نحن قوم نمشي الآن على رؤوسنا!
* * *
هل زالت الحاجة إلى الأفكار الاشتراكية؟!
هل كان كل ذلك التراث الفكري العظيم مجرد أوهام؟
هل نبتت تلك الأفكار التي فجرت ثورات غيّرت الدنيا من فراغ، أم استولدتها حاجة الإنسان إلى الكرامة والخبز والعدل والحرية؟!
هل بلغ الإنسان غاية آماله الآن فاستغنى عن الثورة، أي عن فكرة التغيير؟!
هل استسلم الإنسان لقدر العوز والحاجة والذل والاستعباد؟!
هل انتهى التاريخ؟
هل نعيش خارج التاريخ والجغرافيا والفكر والحلم؟!
هل يكون الإنسان إنساناً بعد؟!