كتب نصري الصايغ:
كنت اشك دائماً. لبنان ماضٍ بلا مستقبل. مستقبله هو ماضيه البشع. مئة عام لم تكن كافية لإقناعنا، أن لبنان هو لبناني. عبث. ولا مرة كان لبنان لبنانياً.
فلنتوقف عن الكذب. صفحات لبنان ليست مشرقة أبداً. ما حصل في “معركة الجمل” اللبنانية تُفصح عن جد، أن اللبنانيين اختاروا خنادق الماضي، وليس بمقدورهم النظر إلى الامام. الأمر السياسي اليومي، “إلى الوراء در”، او، “مكانك راوح”.
هذا التقليد اللبناني محروس. هو مجموعة معسكرات، تحتشد فيه جماعات، مربوطة بأعناقها، إلى طابور يقوده زعيم طائفي، إلى حيث يشاء، بلا نقاش، وبحماس لا نظير له. وهذا التقليد عريق جداً. تكرَّس رسمياً مع نشوء الكيان. “شكراً فرنسا”. لقد اهدتكم ارضاً واحدة وشعوباً متعددة. ظن الموارنة أن لبنان لهم، والآخرون لاجئون. ثم، تكاثرت الولادات عند طائفة، فطالبت بالمشاركة. نشأت ثنائية ملغومة، مسيحية اسلامية. ولكل طائفة مرجعية خارجية، تلجأ اليها لتحميها وتنصرها، ثم كبرت طائفة أخرى، فطالبت بحقها. أخذتها وصار لبنان “ميثاقيا” مزغولاً. ظن المنظرون أن هذا “اللبنان” سيخلف لبنانيين. عبث. ظل لبنان موالياً دائماً، لقوى خارجية متناقضة ومتطاحنة.. كلهم اقاموا عندنا وما زالوا مقيمين. فرنسا كانت عندنا، دمشق كانت عندنا. مصر كانت عندنا. فلسطين مرت من عندنا. السعودية هي عندنا. إيران لها عندنا… ولا ننسى طبعاً اميركا العظمى التي هي عندنا، شئنا ام ابينا.
توقفوا عن الكذب قليلا. لبنان ليس دولة. لم يكن ولن يكون. الدولة يصنعها مواطنون، لا “مواطفون”. الطوائف، كل الطوائف هي الدولة. ولكل طائفة سلطة تطيعها الاغلبية. والخارجون على الطائفة، ايتام في ساحات الاعتصام، وحزانى وطن الأحلام.
لبنان الميثاق، لم يكن وطناً. كان مكان اقامة بصيغة تعايش. والتعايش لا يخضع لمنطق الديموقراطية ولنصوص الدستور ومقتضيات القانون. الممكن الوحيد والمتاح بين جماعات تشبه الجائحات، هو التسوية. التسوية هي تنازل متبادل، من اجل المشاركة في المكاسب… لبنان الطائف “شرحو”. ذروة الانتهاز، وفي مقام التشظي وفي مكانة الدويلة. قبل “الطائف” كانت الدولة تحتضن الطوائف السياسية وتعطيها حصتها. بعد الطائف، صار لبنان محتلا من دويلات الطوائف اولا، وهذه الطوائف توظف عندها الدولة.
لا دولة في لبنان. هي خيمة كراكوز. الدولة الموجودة حقا، هي دويلة الطائفة. والنظام يشبه دولة الدويلة. تقاسم مشترك، بتأييد جارف من قطعان الطوائف.
لنسأل: على ماذا يتفق اللبنانيون؟
يصعب ايجاد مرفق او موقف او حكم، او سياسة ينطبق على نص دستوري، او إلزام قانوني او نصاب قضائي. يستحيل تبديل قاعدة الاشتراك في السرقة والهدر والنفاق. يصعب التراجع عن الفساد. من نافل القول أن تكون سياسة لبنان الخارجية، واحدة. لكل دويلة سياسة خارجية خاصة ومبرمة. السعودية مرجعية، وكذلك دول الخليج. إيران مرجعية ايضاً، كما كانت مصر عبد الناصر مرجعية. اميركا ومن معها، بما فيها اسرائيل، مرجعية. نعم اسرائيل. لا تتعجبوا كثيراً. إن لإسرائيل موطئ قدم سياسي، يلتقي مع اميركا ودول الخليج اللاعربي… ولبنان هو تحديداً، اميركي، سعودي، خليجي، ايراني، و…اسرائيلي. واياكم أن تتهربوا، اسرائيل لها من يواليها، بجميع القرارات الدولية.
ما حدث في “موقعة الجمل”، “مساء 6 و6″، ليس انذاراً ابداً. انه عادة قديمة متجددة. لم تغب ثقافة الفتنة بعد. هذا تاريخ متأصل في ثقافة الفريقين، مهما بالغت البيانات المتبادلة، من اجل درء الفتنة.
البقعة المضيئة في واقع لبنان هي 17 تشرين. كيف يمكن حراستها من التلوّث؟ كيف يمكن صيانتها من الانزلاق. الطوائفية في “6 و6” ادخلت الحراك في نفق. امام الحراك سؤال: من نحن. يلزم تحديد هوية الحراك. نعم. من أنت أيها الحراك؟ هل انت علماني، مدني، أم لا؟ إن كنت كذلك علمانياً، فأنت مُصان وقوي. السؤال التالي: ما الذي نستطيعه وليس ما الذي نريده؟ ما نريده حق لنا، ولكن قد يبدو مستحيلاً وسط التعقيدات الداخلية والتداخلات الاقليمية. تقتضي المثالية الثورية النقية، الكثير من الوعي لمعرفة خريطة الطريق مهما طال الزمن.
لا أمل للبنان، لكي يصير لبنانياً، الا إذا سلك طريق المواطنة، وليس انزلاقات المواطفة.
بانتظار جمهورية 17 تشرين، يدنا على قلبنا، وأعيننا صوب الآتي، وخوفنا من الماضي.
مرة أخرى… إلى اللقاء في الساحات قريباً. كي لا يرثنا في ما بعد الخراب والجوع والموت… الموت عن جد، وليس مجازاً. ما حولنا في المنطقة صورة مفزعة ومفجعة.