في يوم واحد، وربما في الوقت نفسه، صدر عن وزارة الخارجية الأميركية موقفان لافتان ونافران جداً في تجسيدهما لسياسة »الكيل بمكيالين«، مع انهما معاً غير عادلين وغير متوازنين ولا يليقان بدولة عظمى فكيف بالقطب الاعظم والأوحد في الكون:
1 الموقف الأول يتمثل في اقرار الإدارة الأميركية بفشل مساعيها »لإنقاذ عملية السلام في الشرق الأوسط«، عامة، وإنقاذ ما تبقى من فلسطين والفلسطينيين في بلادهم من براثن بنيامين نتنياهو، برغم كل الاتفاقات والتعهدات والضمانات والمؤتمرات والاحتفالات في »حديقة الورود«، في البيت الأبيض، وبرغم التزامات »الدول المانحة« وهي تكاد تشمل أهم وأقوى وأغنى دول الأرض!
2 الموقف الثاني يتمثل في المناشدة التي وجهتها وزيرة الخارجية الأميركية مادلين أولبرايت الى الرئيس الاندونيسي محمد سوهارتو »ان يقوم بمبادرة تاريخية كرجل دولة« بتخليه عن السلطة وتنظيم انتقالها ديموقراطياً.
بالطبع، وفي مجال »استذكار حسنات المرحوم«، لم تنس أولبرايت ان تشيد (بشدة) بإنجازات سوهارتو الذي »اعطى الكثير لبلاده على امتداد 30 سنة فرفع مكانة اندونيسيا في العالم وسرَّع وتيرة نموها الاقتصادي واندماجها في الاقتصاد العالمي«.
مع هذه المناشدة، ولتأكيد حسن النية فيها، توجهت قوة من مشاة البحرية الأميركية نحو اندونيسيا »لمواجهة احتمالات الحاجة لعملية إجلاء عسكرية للأميركيين من جاكرتا خلال الأيام المقبلة«.
أي ان المناشدة عبّرت عن طبيعتها »بلطف« استثنائي لا يمكن إنكاره طالما أكدت »براءتها« بتوجيه المارينز الى شواطئ اندونيسيا.
لا يمكن، بطبيعة الحال، الدفاع عن دكتاتور حكم بلاده بالحديد والنار لأكثر من ثلاثين سنة، وأقطعها لأبنائه وأصهاره وقبيلته، ونهب ثروتها الوطنية، وحولها من دولة قائدة ورائدة وذات مكانة دولية بارزة الى دولة تابعة، ومرتبطة اقتصادياً بدورة الاقتصاد الأميركي مباشرة او عبر الشركات المتعددة الجنسيات.
وإنه لنفاق مكشوف ان تنتقل واشنطن من دور الداعم والحامي والمساند للدكتاتور سوهارتو، الذي كان »رجلها« لمدة تزيد على ثلاثين سنة، الى دور المطالِب للأندونيسيين بالديموقراطية، وبحقهم في التغيير وفي تجديد نظامهم.
فسوهارتو وصل الى الحكم بقوة الحراب الأميركية، وعلى جثث مئات الألوف من الاندونيسيين الطامحين الى التغيير والعاملين له، والذين اعتبرتهم واشنطن »أعداء« مباشرين لها، لأنهم كانوا ينتمون الى فكر مغاير لنهجها الرأسمالي، فصنفتهم من »الشيوعيين الهدامين« وحرضت على إبادتهم!
في المقابل، لا يمكن ايضاً لا للأميركيين ولا للأوروبيين ولأي من العقلاء الدفاع عن بنيامين نتنياهو الذي ليس من الظلم تصنيفه كعنصري، متطرف، مهووس بالقوة، متجبر، فظ، »وإرهابي« على مستوى الدول وليس فقط على مستوى الافراد او حتى الشعوب (فلسطينيين كانوا او لبنانيين)…
انه رجل يحترف »الحرب« على مدار الكون، يقاتل الفلسطينيين ويقتل اطفالهم، يطارد قادتهم بالقتلة المحترفين من رجال »الموساد« في الأردن كما في سويسرا، ويهدد بإحراق واشنطن كما يوجه الانذارات بعقوبات تأديبية لدول الاتحاد الاوروبي، ويغير بطائراته ويقصف بمدفعيته كل يوم المزراعين والنساء وتلامذة المدارس في لبنان.
مع ذلك، فحين يرفض نتنياهو العروض الاميركية البائسة التي تقلص الفلسطينيين في أرضهم ومنها بما لا يتسع لوقوفهم عليها وليس لكي يسكنوها ويعمروها ويعيشوا فيها وتكون لهم من ثم دولة، كباقي شعوب الأرض،
حين يرفض نتنياهو »المبادرة الاميركية« التافهة، التي قبلها الفلسطينيون على بؤسها، يكون رد فعل الادارة الاميركية الانسحاب من الميدان وإعلان فشل مساعيها، والانكفاء، مع الطلب الى »وسطاء الخير« مثل فرنسا ومصر ان يتحركوا بالدعوة لمؤتمر دولي جديد (ربما انعقد في شرم الشيخ!!) هدفه انقاذ »العملية السلمية« او بالاحرى بحثها معدلة بحيث تتلاءم مع شروط الجبار الذي ينهزم في وجهه الجميع!
ان سوهارتو هو في اسوأ تصنيف، عدو شعبه، ولشعبه ان يقرر مصيره، ولو بدمه.
أما نتنياهو فقد تكون عنصريته وتطرفه وفظاظته قد جعلته »بطلا« في عيون المستوطنين والعسكريين والمتطرفين والمتعصبين (وكلهم عنصريون) في اسرائيل.
لكن صورته في العالم ليست ابهى من صورة سوهارتو، بل لعلها ابشع، فهو لا يفتأ يؤكد انه »عدو العالم« كله، وليس عدو الشعب الفلسطيني وحده.
كيف يمكن لأي مواطن في الوطن العربي خاصة، وفي العالم الثالث بل وفي كل انحاء العالم، ان يفسر هذه الجرأة الاميركية المتمادية الى حد التلويح بالمارينز لخلع سوهارتو في اندونيسيا، وهذا التخاذل والتراجع المخزي والخوف المتمادي من نتنياهو في اسرائيل؟!
في دولة آسيوية إسلامية كبرى، تكاد تعادل الولايات المتحدة بعدد سكانها، تنوب واشنطن عن الشعب الاندونيسي وتطالب »الرئيس الشرعي المنتخب ديموقراطيا« بالتنازل عن الحكم، وترسل المارينز (ربما لإجلائه)..
وفي دولة صغرى لا يتجاوز عدد سكانها ثلث سكان مدينة اميركية واحدة مثل نيويورك، تتراجع الولايات المتحدة وسط استغراب العالم بل وذهوله أمام إصرار نتنياهو على إبادة فلسطين والتمهيد لطرد بقية شعبها، وتخاف من تهديده بإحراق واشنطن فتكلف من ينوب عنها بالدعوة الى مؤتمر دولي »لإقناع« هذا الإسرائيلي الابشع ببعض »العطف« و»الشفقة« و»الرحمة« سواء مع الفلسطينيين المهددين بالاقتلاع الجماعي، او مع واشنطن المهددة بالإحراق، او مع اوروبا المهددة بالحصار الاقتصادي وربما التجويع على يد »بيبي« الجبار!
الكيل بمكيالين!
انها سياسة اميركية رسمية إزاء العرب عموماً وإسرائيل، بل ازاء العالم كله من جهة وإسرائيل من جهة اخرى، بل ازاء الاميركيين انفسهم من جهة وإزاء اسرائيل من الجهة الاخرى.
يكاد سوهارتو يبدو »شهيداً« للسياسة الاميركية.
أما نتنياهو فيبدو وكأنه احتل واشنطن ومنها يمارس سيادته عليها وعلى الكون.
ولعل علينا الآن ان نعمل لتحرير واشنطن من »نيرونها« الإسرائيلي، او ان نقاتل نتنياهو فيها حتى لا يقتلنا بعجزها عن وقف جنونه وهوسه بالدم العربي وبالهيمنة على الكون كله.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان