عليَّ أن اتوقف عن الكتابة. لم تعد الكلمة مقنعة ولا النص.
أنهكت الكلمات كل ما عندنا. أكره الكلام على مشكلات مقيمة منذ مئة عام. من له جلَدٌ بعد على قراءة مزامير الطائفية وهجائية العلمانيين ضدها؟ من يأمل شفاء البلد، (هذا ليس وطناً وهذه الأمة ليست الا أمة)؟ لماذا جلد واقع سلطوي مزمن وتافه ورخيص؟ أننا لا نتقدم خطوة إلى الامام. لن أقحم قلمي في تهريب عامر الفاخوري ولن أقتنع بكل التفاصيل، من اينما جاءت. لبنان هذا هو هكذا. قادر على جمع الاضداد، الشرفاء والعملاء، والقديسين واللصوص، مع الافضلية للصوص. قادر على أن يكون وان لا يكون في الوقت نفسه. قرفتُ من السياسة والسياسيين والاتباع والقطعان والجباه التي تشبه نصف نعل الحذاء. كرهت تناول القضاء. لا اريد أن اسمع كلمة نابية عنه. انه عار يسير عاريا بكل عوراته. الذي يقهرك ويقتلك انه يستطيب الهجاء. لم يثر مرة لكرامته. الممسحة تصلح فقط لأحذية شذاذ الاخلاق… الأهم، انني طلقَّت المعركة ضد الفساد، لأننا لم نصب فاسداً واحداً بعد. حكامنا اذكياء، يعرفون جيداً كيف يستدرون التأييد من حثالات متحكمة. ويتبرعون من اموالنا على رؤوس الأشهاد.
عليَّ أن اتوقف عن الكتابة عن قضايا خاسرة، ولن تكون رابحة في المدى المنظور. سأبقى فلسطينيا بلا قلم. أحلم. آمل. أحلم. أنتظر. طبعاً بلا كلام. سأبقى منصرفا عن شطآن الدم في الخليج. لن أعوَّل على مجتمعات دمرتها الحروب الاهلية، وسحقتها الدكتاتوريات الاستبدادية. لن اقيم وزنا للأقوياء جداً، وتحديداً للأقوياء علينا، والجبناء امام اميركا واسرائيل وممالك النفط. سأشاهد على شاشات التلفزيون إعلاماً يشبه انظمتنا الكريهة والمستقوية والهزيلة. لن أحزن على أحد بعد الآن لقد بددت أحزاني على الاحلام تتراكم كالحطام.
طبعاً لن اكتب عن الكورونا. عقوبة لا سابقة لها. أعرف أن عليَّ أن احتمي منها، كجبان جريء، يدافع عن خوفه ببسالة الانعزال، والخضوع للآتي، لو كان مريراً. غريب كيف أن من يعرف ومن لا يعرف يتشاركون في “توعية” شعب على خطر يأكل معه في الصحن. لا أعرف كيف أصبح اهل الصحافة والقلم خبراء جرثوميين ويطلقون التصريحات على الشاشات كأنهم انبياء.
لن اكتب الا عن اولئك الذين يواجهون الكورونا. هؤلاء قديسو لبنان. انهم في قلب الخطر الكوروني. يدافعون عن الحياة ببسالة عز نظيرها. انهم والكورونا في مكان واحد. خطر اصابتهم كبير. انهم الآن، الشهداء الاحياء. الذين يقومون بواجبهم الخطير، فيما الآخرون، يطعنون واجباتهم ويمارسون عكسها.
لهؤلاء، تليق الكلمات.
لهؤلاء، يقال شكراً ونحبكم ونخاف عليكم.
لهؤلاء، المنخرطين في معركة هزيمة الكورونا، رجالاً ونساء، مسعفين وممرضين، اطباء وطبيبات، عمال نظافة وعاملات… لكل هؤلاء اقول: قلوبنا معكم وعليكم نخاف. أنتم الجنود المجهولون الحقيقيون.
طبعاً لن نخصَّ رجال الدين بشكر ولا ارباب المصارف، ولا نهابي السلطة، ولا تجار الامراض بكلمة حلوة. ليس في لغتنا سوى ما يستحقون من اهمال وعزل وتجاهل، وأكثر من ذلك.
إذا،
عليَّ أن اتوقف عن الكتابة، الا عن هؤلاء الذين لم ولن يتوقفوا في حربهم ضد الكورونا.
قلوبنا وما فيها تخفق خوفاً عليكم وعليكن.