الحمد لله ان بعض حكوماتنا اكثر تسامحا مع الشفوي منها مع الخطي.. وهو تسامح اضطراري بمجمله لأنها لا تستطيع ان تقفل الفضاء او تحجر عليه بالرقيب الأريب او تعتقل بشرطتها من يجوس بأفكاره فيه.
فضاء الله واسع، وفي فضائه الآن تسرح الأفكار وتمرح الآراء، ويتبارى المجتهدون في الدعوة كل الى ما يؤمن به، او الى ما هو مكلف بتعميمه او بالرد على الخصوم وإفحامهم وتسفيه ادعاءاتهم حتى لا تكون فتنة بين الناس.
والفضاء العربي يضج الآن بكل ما كان محظورا على الأرض، او على الورق.
وما يصل الينا من الفضاء المستأجر في الخارج اكثر وأغنى بما لا يقاس مما تبثه محطاتنا التي تظل »على الارض« او ربما تحت الأرض مهما تعددت قنواتها الفضائية التي لا تختلف كثيرا عن تلك التي تحت..
الطريف ان حكوماتنا التي تمنع الكلام في الداخل ولا تقبل من الكتابات الا ما يمجدها ويقلب عيوبها حسنات، فيجعل القمع أمنا، والنفاق تأييدا، والنهب المنظم لثروات البلاد تدعيما للعدالة الاجتماعية، والجبن عن اتخاذ موقف في الأمور المصيرية حكمة وبعد نظر، لا تجد ما تمنع به أفاعيل الصحن السحري الذي يلغي المسافات ويصب الكلام الممنوع مباشرة في آذان المستمع المقموع فيعرفه بما جهل او أخفي عنه من حقائق ومعلومات وأحيانا من أخبار حكامه ومباذلهم وحوادث وقعت في الشارع المحاذي لشارعه، ولكنها حجبت عنه للضرورات الامنية او لحفظ هيبة الحكم او بادعاء الحرص على القيم الاخلاقية.
ولعل الفضائيات العربية تؤدي، الآن، خدمة لا تقصدها وإنما تأخذها اليها الرغبة في جني الأرباح التجارية، وهي اعادة وصل ما انقطع بين العرب والعرب، ليس فقط بين المشرق والمغرب بل ايضا بين المشرق والمشرق والمغرب والمغرب،
انها تأخذ الآن لنفسها ما كانت تقوم به الصحافة العربية، ولو ضمن نطاق ضيق، او الاذاعات العربية الموجهة الى »عرب الخارج«، وأشهرها »صوت العرب« في نطاق اوسع،
ولعلها من دون وعي سياسي، ومن دون قصد الا الربح، تؤدي دورا »سياسيا« لم يكن في حسبان مطلقيها ومموليها من أمراء السياسة او أمراء التجارة الذين لا يهتمون بالانتشار الا من زاوية المردود الاعلاني، وهو خطير.
أول ما تفعله هذه المحطات انها تعرف العرب ببعضهم، وتعيد التوكيد على البديهيات التي كاد الانقطاع او تعذر التواصل ان يضيعها ويضيعهم عن بعض الحقائق الاصلية لوجودهم.
من ذلك، على سبيل التبسيط، ان يعيدوا اكتشاف حقيقة انهم يتكلمون لغة واحدة، وان بلهجات متعددة، ولهم قيم مشتركة ومفاهيم اجتماعية متقاربة، ولو مختلفة، وتاريخ واحد ولو بقراءات متباينة،
فأبطالهم القوميون، في الماضي البعيد او في زمنهم الحاضر، هم هم،
مفكروهم والمبدعون الذين يعيشون في وجدانهم هم هم، من الفارابي الى ابن الفارض، ومن الرازي الى ابن خلدون، ومن سيد درويش الى فيروز، ومن أم كلثوم الى الجواهري، ومن عبد الوهاب الى سعيد عقل، ومن نجيب محفوظ الى ادونيس، ومن ناظم الغزالي الى توفيق يوسف عواد.. الخ.
ومن ذلك ايضا ان بلادهم جميعا تعيش ازمات اجتماعية من الطبيعة ذاتها، التخلف والفقر وغياب المؤسسات وقمع الحريات وانتفاء حقوق الانسان وانعدام المشاركة في السلطة،
حتى البرامج الترفيهية التي تقدمها تلك الفضائيات، والكثير منها هابط في مستواه، تكشف للمتفرج الذي يعيش سجين التزمت المفروض من الخارج او النابع من الداخل، في أي بؤس يعيش.
يوما بعد يوم تبلغه هذه الفضائيات انه يعيش خارج عصره، ومنفيا عن عصره وممنوعا من اللحاق بعصره،
تقول له الفضائيات انه محروم اجتماعيا ومحروم ثقافيا بقدر ما هو مضطهد سياسيا او يزيد، فالنساء على غير ما هي عليه امرأته، والرجال على غير ما هو عليه، وحكام البلاد الاخرى على غير حال حكامه: المرأة هناك سافرة الوجه لا يغطي السواد عينيها وقلبها وأفكارها، وهي تعمل ليلا ونهارا من دون ان يتهمها أحد في شرفها، ومن دون ان يحاول احد اغتصابها، ومن دون ان تسمح لأحد بتمييز الرجال عنها الا بالكفاءة ومعيار التمييز هو إجمالا الكفاءة.
اما الحكام »هناك« فيشرحون سياساتهم، ويحاولون كسب التأييد لها بمواجهة معارضيها وتفنيد تقولاتهم ثم انهم يردون على الاسئلة جميعا لأنهم ان لم يجيبوا اتهموا بالعجز او بالتستر على الخطأ او بتزييف الحقائق وباحتقار ناخبيهم الذين سرعان ما سيعاقبونهم فيسقطونهم في الانتخابات التالية..
للمناسبة فان الفضائيات تقدم صورا للانتخابات، بمرشحيها والناخبين، في معظم انحاء العالم، مما يزيد من تلهف مشاهديها العرب الى ممارسة هذه اللعبة الجديدة التي تشعرهم بأنهم لن يكتسبوا شرف الحياة ما لم يمارسوها ويعتمدوها قاعدة للتقدم في اتجاه انسانيتهم والعصر.
… وطالما انها الوسيلة الوحيدة المتاحة فان هذه الفضائيات تلعب دورا تشويهيا للأجيال الجديدة، وهو امتداد لدور التلفزيون المحلي، لكنها من جهة اخرى تعيد الاعتبار الى اللغة العربية فترتفع من العاميات الكثيرة والتي غالبها غير مفهوم الى لغة واحدة موحدة تؤكد ولو من حيث المبدأ وحدة الوجدان وأداة التواصل والتفاهم.
بالمقابل فان الفضائيات تعرّف العرب بعضهم بالبعض الآخر، ليس فقط على المستوى السياسي، بل قبل ذلك على المستويات الثقافية والاجتماعية: يتعرفون الى أدبائهم ويتذوقون ألوان طربهم ويعرفون اكثر عن مشكلاتهم، ويتفرجون على بعض قياداتهم السياسية وبعض كبار اساتذتهم كما الى علمائهم ورياضييهم ونجوم المسرح والسينما (ان وجدت) والصحافة حيث توجد… فيلغي القرب الغربة ويفتح ضمنا بابا مواربا للحوار..
وبرغم ان الفضائيات، المقيدة منها والمطلقة على الآخرين، لا تتوغل داخل البلاد العربية، وتتعاطى في الغالب الأعم مع الطرائف والغرائب والظواهر المضحكة او الفريدة في بابها، فلا تقدم الخدمة الفعلية المتوخاة والممكن تنفيذها، ولا تتعامل كثيرا مع الأرقام الدالة على الواقع الاجتماعي الاقتصادي بل تجنبها عمدا لتوفر على نفسها اشكالات سياسية، فانها بالمجمل وحتى من حيث لا تقصد او لا ترغب، تتجاوز انظمة الانفصال فتربط بين الناس، وتوفر مناخا من الألفة ومشاعر القربى والحد الأدنى من المعرفة التي يمكن البناء عليها للمستقبل.
ان المعرفة تقرب بين الناس. والفضائيات لن تحقق الوحدة العربية، فلا هذه مهمتها ولا يطلبها منها احد، ولكنها من حيث لا تقصد او تريد، تعزز وحدة المشاعر وتعزز اواصر القربى بين أشقاء متباعدين، كما انها توسع دائرة الفهم المشترك للمسائل المطروحة.
ومع التحفظ على كثير من البرامج السياسية التي تضيع فيها هوية العدو، او حقيقة القضية، وعلى معظم البرامج »الخفيفة« التي تعمم التفاهة فان دور هذه الفضائيات اكثر ايجابية مما أراده اصحابها.
وسقى الله التجارة، فهي تقود العرب الى العرب بسلاسل من ذهب.
عندما تخون العشيقة..
انتهت بهم السياحة في ملهى ليلي: كانوا أربعة رجال وامرأة.
مع الغناء والشراب سرى جو من النشوة، وقالت له المرأة: أريد ان ارقص لو كان »منصور« معي لراقصني.
تجاهل الدعوة، فعادت تقول: ألست صديقه ووكيله؟ ألم يفوضك فجعلني في عهدتك قبل سفره؟! هيا قم فراقصني.
تلكأ فالتفتت تستقرئ الرغبات في عيون الآخرين، حين وقف أمامها ذلك »العيوق« الغامق السمرة يدعوها الى الرقص. اعتذرت فانسحب منكسرا.
مع زجاجة جديدة وكان قد استخفه الطرب، عادت تلح عليه ان يراقصها، ولما اعتذر من جديد، اطلقت يديها تعبث بشعره ثم بربطة عنقه، فإلى تميمة بسلسال ذهبي عريض يحملها منذ طفولته.
قال: أتعبتني، توقفي.
قالت: ولكنني أريد ان أتعبك. قم الى الرقص وستسمع مني ما ينعشك.
قام متثاقلا، وفي الحلبة انفلتت منه وانطلقت ترفُّ مثل يمامة زرقاء، ثم تدور من حوله تلقي بجذعها عليه، تمرق من بين يديه، ومع تلاشي الموسيقى كانت قد ارتمت في حضنه وهي تقول: دعنا نرقص بعد.
اعتذر بتعبه فاذا بها تندفع الى غامق السمرة على الطاولة الأخرى: اما زلت تريد مراقصتي؟!
قام الشاب مرتبكا فتعثر بالكرسي، وحاول الاستناد الى كتف صديق له، لكن يده انحرفت قليلا فاصطدمت بالطاولة وأوقعت صحنا وشوكات وسكاكين وكؤوسا، ومدت اليه يديها تساعده فمال عليها بكل جسده حتى كادا يسقطان معا.
عندما وصلا الى الحلبة كان الشاب الغارق في خجله، المغسول بالعرق، قد ازداد ارتباكا حتى لم يعد يعرف كيف يحرك قدميه، وكان غيظها ينهشها نهشا فتدور بعينيها ترمي الساهرين بنظرات تلسعهم في وجوههم.
رقصت طويلا، لوحدها، والفتى يتابعها متعثرا، يصفق حينا، ويحاول مواكبتها مراقصا حينا آخر، ولكنه عبثا حاول مشاركتها.. وفجأة انحنت عليه فقبلته على خده وأمسكت بيده تريد اعادته الى طاولته، ولما عاند منحته قبلة اخرى فانثنى منتشيا ورجع الى طاولته نافخا صدره بزهو الفاتحين.
قالت وهي ترفع كأسها الفارغ: الا يسقيني السيد الوكيل كأسا اخرى؟!
سكب لها كأسا جديدة، متحاشيا ان ينظر اليها، فقالت:
هل أثرت غيرتك، أم تراني حركت فيك الرغبة في تأديبي انتقاما لشرف صديقك عشيقي الغادر. أتعرف انه طلب مني الزواج فرفضت حتى لا أدمر بيته، ولكنه، الغادر، سافر تاركا لي رسالة يقول فيها انه عائد خلال اسبوع.
ضحكت بعصبية وقالت: عائد خلال أسبوع ومعه الهدايا، الفندق مدفوع ومعي مال كثير وشبابي، فلماذا لا أتمتع بأيامي الحلوة. استطيع كل ليلة ان اختار من يساهرني فيراقصني ويمتعني بصحبته. ألست عشيقة، فما ضرورة العفة إذن؟! عشيقة واحد يمكن ان تكون عشيقة ألف. يعشقون وأعشق، ولي الخيار.
ترطب صوتها بالدمع وهي تقول: الا تريد نصيبك من العشق؟ أليس للوكيل بعض حقوق الأصيل؟!
هبت واقفة وهي تغمغم: هل تسمحون بإيصالي الى فندقي. لقد تعبت وأريد ان أنام. سأطمئن عشيقي الى أنكم حميتم عفتي في غيابه. هو يخون زوجته معي وأنا أخون نفسي مع من أشاء، وأنتم تبررون عجزكم او جبنكم بالامانة. ولكنني عشيقة مخلصة. لا أرتكب الخيانة الا مع واحد، بينما أعرف من تؤكد عفتها (او يؤكد عفته) كل يوم بخيانة جديدة.
تهويمات
} قالت عاشقة جسدها: لا أرى من يستحقني! أريد من يشبهني جمالا، ويبهرني بعقله.
قالت زميلتها المتواضعة الجمال: العقل يكفيني.
قالت عاشقة جسدها: العقل سيعاملني كمتعة، كاستراحة بين فكرتين. أكره الراحة. يلذني التعب الذي يعطل العقل. سأنهكه حتى يتفرغ لي.
} تكتبني على الورق وتنساني.
تقول للورق ما لا تُسمعني أقله.
اكره ان أصير من حبر وورق. مزقت رسائلك حتى أحمي صورتك كإنسان. تريدني في خيالك وأريدك في حياتي ويعز اللقاء. حين ينضب حبرك تعال وسأملأك بالذي لا تعرف كيف تكتبه.
} قبل ان تغادر منزلها في الصباح قالت لمرآتها:
لا يليق بي الا ملك إبن ملك.
في المساء، وقبل النوم، اكتشفت ان مرآتها محطمة وقد تركت لها رسالة اعتذار: يحب الملوك ان يدخلوا خلسة فلا يراهم أحد. أخشى أنني امنعهم عنك، لذلك اخليت لهم الطريق.
} قالت: تأخر لقاؤنا أكثر مما يجوز. لكأننا الآن شبحان يظللهما طيف حلم مجفف.
ومد يده اليها فإذا بها تغرق، في نداها. قالت ذاهلة: الحلم لا يموت. ومع الأحلام لا نموت. تدوم الحياة ما دامت الاحلام. الوهم هو العدم. الحلم هو الحياة. امنحني عمرا جديدا، عمرا بمدى الحلم.
} قالت وهي تتابع بنظرها زميلة أجمل منها ولها جمهور من المعجبين: انها »تلبس امرأة« كل الوقت، ولا استطيع ان اتصورها أما او اختا او إبنة لأحد من الناس. الرجال ملووثون بحب المشاع، فكل منهم يستطيع ان يدعي ملكيته بغير إثبات!
} قالت تعاقبه: تحدثني عن القمر والنجوم، عن الشمس والهواء المعطر بأنفاسي، من تحسبني؟! أريدك ان تتحدث معي عني أنا، عن الإنسان بمواجعه ومدامعه، أريد منك الفرح لا الوهم، وأريده لي أنا، بلحمي ودمي وإحساسي وأشتاق من يقول لي: تعالي الي يا امرأة، لا من يتغزل بي كتمثال من مرمر باردويت.
} نسيت ملامحك وأنا على رصيف الانتظار.
خفت من التعجل فأخذتك مني خيبة التوقع.
هل تبقت لنا فرصة للتعارف؟!
من أقوال »نسمة«
قال لي »نسمة« الذي لم تعرف له مهنة الا الحب:
أتعرف ان الحب هو سر نجاحي في عملي؟ كنت أقول دائما لنفسي: لا يليق بحبيبي ان يكون له محب فاشل، فقد يتهم بأنه شغلني به عن مستقبلي، مع انه من مستقبلي في القلب، او قد يتقولون عليه انه ناقص الطموح. مع الحب صرت اكثر انتاجا وأتقن عملا وأعظم سعادة مع »معلمي« المعبود.