تثبت عمليتي البيجر والتوكي ووكي، ثم التفجير الأخير الذي استهدف أعضاء من حزب الله ومدنيين بالوقت نفسه، الفارق النوعي الكبير للقدرات التقنية والاستخباراتية لإسرائيل مقارنةً بأعدائها، فقد تمكنت من استهداف قرابة أربعة آلاف شخص دون تحريك جندي واحد ودون أي احتكاك مباشر.
بالمقابل تكشف إسرائيل يومياً وللعالم كله، كم هي دولة متوحشة، وكم تشهد تراجعاً مستمراً في مفاهيم القيم الإنسانية التي كانت أحد أهم أسباب تعاطف العالم معها بعد الحرب العالمية الثانية. فحين لا تتورع “الديموقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط” عن ممارسة القتل العشوائي على مدار عام كامل في غزة أوعبر التكنولوجيا كما حصل في لبنان، فإنها تقول بكثير من الوضوح أن القوة تغنيها عن أية قيمة أخرى وعن أي قانون آخر. هذا يصلُحْ مؤقتاً وحقق لها مكاسب لا يمكن انكارها، لكنه مؤشر يتناسب عكساً مع انحسار كل أنواع التعاطف الشعبي معها على امتداد العالم. لا يمكن الاستهانة على المدى الطويل بالانقلاب الحاصل في الرأي العام العالمي، الدعم السياسي القوي الذي لاتزال تحظى به الدولة العبرية مرتهن بظروف سياسية قد تتغير.
لئن يكن في فلسطين أو لبنان، التضامن الإنساني الذي أظهره الفلسطينيون واللبنانيون أمام الوحش، واضح وقوي وهو قد يساهم في تجاوز انقسامات قديمة ومزمنة. هذه ميزة إضافية أمام عدو يزداد تكبراً وعنفاً. صحيح أن كمية من الأحقاد والشماتة لم تغب عن المشهد، لكنها لحسن الحظ، لم تكن الغالبة، هي جزء بشع من المشهد لكنها لا تلخصه، ويجب التعامل معها على هذا الأساس، الأفضل عدم الالتفات اليها. شباب طرابلس الذين ذهبوا للتبرع بالدم في الضاحية أفضل جواب على الوضاعة.
بالمحصلة، لايمكن وضع كارثة البيجر والتفجير الذي تلاها ،وهي كوارث بكل المقاييس إلا في إطار الصراع مع اسرائيل والحسابات الاسرائيلية الآيلة إلى التصعيد. الصراع مستمر منذ قيام هذه الدولة، وسيستمر حتى حصول الشعب الفلسطيني على حقوقه. كل ما حصل ومايحصل وما سيحصل يصب في هذا الإطار. قد تخطئ الحسابات وقد تُخاض معارك ليست في مكانها، وقد تتوه الطرق كلها، لكن لا شيء يوحي أن الفلسطيني ومن آمن بقضيته قادرٌ على النسيان. هذا لا يعني ابداً أن النصر قادم أو حتمي إلى ماهناك من مفردات قديمة، هذا يعني بكل بساطة أن العدالة والحقوق المُطالب بها منذ خمس وسبعين عاماً لم يعد بالإمكان محيها. السد الاسرائيلي متصدع مهما بدا عليه من قوة، ولم يعد بإمكانه أن يعيد انتصار الـ٦٧ ولا مجال لإلغاء فلسطين ولا الفلسطينيين.
يبقى أننا في معادلة صعبة ودقيقة ومتشعبة، عرب غائبة حين لا تكون متواطئة، عالم متفرج ولو تعاطفاً ودول عظمى أتقنت اللعب على كل الحبال. كل ذلك ليس جديداً، لكنه يزداد وضوحاً.
أخيرا، مع فلسطين دائماً ومع لبنان، كل لبنان، البارحة واليوم وكل يوم.
الرحمة لكل من قضى ومن جُرح، ولكل من فقد عزيزاً على الدرب الطويل.