على امتداد خمسة أيام طويلة سال فيها الدم الفلسطيني طوفاناً، وكان يفترض أن تهز العالم، وأن تضخ شيئاً من الروح في هذا »الشلو« العربي الهائل الامتداد في قلب الفراغ، لم نسمع كلمة سياسية واحدة تعيد طرح القضية الفلسطينية بما يتجاوز السقف الإسرائيلي القمعي الذي حُصرت تحته.
فما حدث داخل فلسطين، كل فلسطين، كان أجمل مما نشطح فنسافر إليه بخيالنا أحياناً، ثم نرتد عنه يائسين من القدرة على تحقيق الأحلام..
كان فوق التمني أن نرى فلسطين الممزقة نتفاً وقد عادت فالتحمت وتجمّعت في قلب الانتفاضة من أجل هويتها الواحدة، أرضاً وشعباً، القدس وأم الفحم، غزة وكفركنه، رام الله والجليل الأعلى، الخليل والناصرة، والمخيمات على امتداد الجسد الفلسطيني الممزق بأسلاك الموت الإسرائيلي.
وكنا نعرف أن فلسطين لن تتوحّد إلا بدمها وفي دمها وعبر انتفاضة شاملة ضد الاحتلال الإسرائيلي الواحد الذي جزّأها إلى حد التفتيت، فألحق بعضها بكيانه وأنكر عليه هويته الوطنية إذ جعله »إسرائيلياً« ولو من الدرجة الثانية بوصفه »عربياً« (وليس فلسطينياً بالتحديد).. وألحق بعضها الآخر بجيشه لإتمام تدجينه (في المرحلة الانتقالية!!)، وألحق البعض الثالث بمخابراته العسكرية منها و»المدنية« ومعها المخابرات المركزية الأميركية في ظل »الحكم الذاتي الفلسطيني« المُخضع لسلطة القرار الإسرائيلي في الداخل وفي الخارج، في البر والبحر والجو، في الاقتصاد والعمل والسفر والتجارة والقمار وسائر وجوه الاستثمار المجزي!
خمسة أيام من شلالات الدم وقوافل الشهداء والجرحى، ومع ذلك فقد بقي المواطن العربي خارج الحدث الفلسطيني العظيم، سواء تملّكه الشعور العارم بالغضب أم تمزق وهو يحاول أن يساعد فلا يستطيع، أم تهاوى في وهدة اليأس، وسط إحساسه بأنه »نكرة« ملغى من كل حساب، لا أحد يطلب رأيه إن كان له رأي ولا هو قادر على الإتيان بما يبدل »المكتوب«… ولو بدماء الأطفال!
إن القضية قضيته، والدم المُراق دمه، والنتيجة التي ستنتهي إليها »الحرب« الجديدة ستؤثر بشكل حاسم على مستقبله وفيه،
ان »الثائرين« ضد الاحتلال الاسرائيلي في الداخل الفلسطيني هم شركاء مصيره.
.. وهذا الاحتلال الذي واجه »ثورة القدس« بدباباته وطائراته والصواريخ هو عدوه، امس واليوم وغداً، في فلسطين وفي لبنان النازف بعد، وفي سوريا المحتلة ارضها بعد، وفي مصر المرتهنة ارادتها بعد، وفي الاردن الذي لم يخرج من الاسر ابداً، مهما تعددت اتفاقات الاذعان لارادته ولمشاريع توسعه ولخطط هيمنته المطلقة على كامل الارض العربية، مع ذلك، فكل لحظة ترتفع في وجه هذا المواطن العربي المغتال بالقهر او بالعجز ام بكليهما معاً، الحواجز والعوازل التي تمنع التواصل وتضرب وحدة المعركة، بل وتخرجه منها، بغير كلمة شكر او حتى اعتذار!
لقد نجحت اسرائيل في تصوير المذبحة على انها »تمرد أقلية قومية« او خروج على النظام اقدم عليه بعض »رعاياها« من الدرجة الثانية، والملحقين بها اضطراراً.
طمس الاسرائيليون الطبيعة السياسية للانتفاضة.
ولامر ما شاركت »السلطة« في تحجيم الانتفاضة وحصرها في الاطار المطلبي!
ولكأنما تواطأ الطرفان على طمس الطبيعة السياسية للانتفاضة، بمطالبها الاصلية واستهدافاتها الحقيقية التي تستأهل ان يبذل من اجلها كل هذا الدم الطاهر!
توالى ظهور القياديين في »السلطة« من كبراء ووزراء ومسؤولين ومتحدثين وناطقين رسميين، على شاشات التلفزة العالمية، في ظل صمت مطبق التزم به عرفات، والتزموا جميعاً بأن يتحدثوا خارج الموضوع… السياسي!
تحدثوا عن »اشتباكات«، عن »انتهاكات للاتفاقات« عن »حمامات دم« ثم طالبوا بوقف اطلاق النار، وبلجنة تحقيق، وبمعاقبة من تثبت مسؤليته عن قتل الاطفال والفتية والرجال وقصف المنازل، وبتطبيق اتفاقات جنيف، وبعودة القوات الاسرائيلية الى مواقعها على مداخل المدن الفلسطينية بدلا من البقاء في قلبها!!
كل هذا الدم المراق، كل هؤلاء الشهداء، كل هذه الانتفاضة المجيدة، كل هذا التحرك التاريخي (لفلسطينيي 1948 او »عرب اسرائيل«..)، كل هذه الحرب الاسرائيلية، كل هذا النهم الى القتل، كل هذا الالغاء الفعلي لاتفاقات »دولية« ممهورة بالتواقيع الامبراطورية ولصور المصافحات والمصالحات التاريخية، وللقمم التي لا تكاد تختتم واحدة منها حتى تبدأ ثانية وثالثة فرابعة… ثم لا يعلن الا عن اتفاق على قمة جديدة!
هل ما يجري هو، بالفعل وبقوة الامر الواقع المكرس باتفاقات دولية، هو شأن داخلي اسرائيلي، ليس من حق احد (والعرب تحديداً) اتخاذ موقف منه؟
كيف يمكن التسليم بهذا القهر الجديد؟
اعظم مواجهة وأعظم انتفاضة وأشرف ثورة يتنادى إليها شباب فلسطين وفتيتها تُطمس بهذه البساطة، وتنفى عنها طبيعتها الوطنية والقومية، وتصوّر وكأنها مجرد صدام بين حركة نقابية متطرفة وبين قوات مكافحة الشغب، ولا قضية؟!
كأن فلسطين قد انتزعت من قلب الجسد العربي، ولم يعد لها شأن بأهلها ولا لأهلها علاقة بها: اول امرها في تل ابيب وآخر امرها في واشنطن!
حتى الدعوة الى قمة عربية ليست مطلبا فلسطينيا ملحاً وجدياً، بغض النظر عن امكان انعقادها. انها محاولة ضغط بائسة على السيد الاميركي.
لكأن كل ما قيل، وكل الحركة المحدودة، وكل الاشارات والمراثي، انما تجيء في سياق المناورة والضغط من اجل دعوة اميركية جديدة للقاء جديد مع باراك الذي قفز الآن الى محالفة خصمه القديم ارييل شارون (بطل حرب القدس الجديدة) بعدما عاد الى الواجهة خصم الطرفين بنيامين نتنياهو!
هل صار الدم الفلسطيني وقوداً لمناورات اهل السلطة في اسرائيل؟
في اي حال، لا يكفي اقتحام شارون الحرم الشريف للمسجد الأقصى في تفسير »ثورة القدس« التي يريد العالم ان يراها »اشتباكات«.
كما لا تكفي دعوة وزيرة الخارجية الاميركية عرفات وباراك الى لقاء في باريس لتجاوز المذبحة بتثبيت الاتفاق على وقف اطلاق النار.
ولا يكفي حتى اللقاء في شرم الشيخ، وبدعوة من الرئيس المصري حسني مبارك، لحسم الأمر اذا ما ظل الموضوع الاصلي خارج البحث.
فلسطين القضية، بداخلها وأطرافها، بهويتها ودولتها وعاصمتها القدس، هي الموضوع، ومنها تبدأ السياسة وبها تنتهي.
هكذا قال دمها الذي اضاء جنباتها جميعا، ويكاد يضيء دنيانا.
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان