عادت أوروبا تعيش ذكريات بعض أسوأ أيامها. كان الظن أن سنوات الجوائح والأوبئة والمجاعات والحروب والهجرات، كلها ولت إلى غير رجعة. كان الظن أيضا أن العصر الذهبي الذي كانت تعيشه دول أوروبا لسنوات بعد انقضاء الحرب الباردة هو التعويض المناسب لقارة عانت طويلا وكثيرا. خاب الظن، أو كهذا يبدو لنا. نحن أهل الجنوب الذين دفعوا ثمنا باهظا للتعامل مع آثار هذه المعاناة الأوروبية على امتداد عصور ما بعد الظلام. دفعناه وبعضنا في أفريقيا ما يزال يدفع تحت ضغط استعمار قديم متوحش أو جديد ظالم وإن متطور ومتجمل، وفي ظل عنصرية تكشف أحيانا عن قبح مقزز؛ كما يحدث في فلسطين، وكما كشف دفء استقبال أوروبا السعيدة لموجات الهجرة نتيجة أحداث أوكرانيا، وكما تكشف الآن تطورات داخلية متشابهة في عدد من دول الغرب، أو في ظل عنصرية تتخفى في أنماط مبتكرة من السلوك التمييزي بين مواطني الوطن الواحد وفي التعامل مع دول العالم النامي. من هذه الأنماط ما درجنا أن نطلق عليه تأدبا واعتدالا عبارة ازدواجية المعايير.
دفعني إلى هذه المقدمة حالة في العلاقات الدولية تبدو في مظهرها غير جديدة وليست طارئة وهي في جوهرها جديدة وطارئة. تبدو في المظهر تكرارا لسياسة عدم الانحياز التي دشنتها الهند مع دول في العالم النامي في منتصف عقد الخمسينيات من القرن الماضي للتعامل مع حالة دولية بعينها، وهي ليست كذلك. الحالة الدولية الراهنة تختلف جذريا عن الحالة الدولية في الخمسينيات من القرن العشرين. هي أقرب ما تكون إلى حالة اندفاع متهور ورهيب نحو فرض هيمنة دولة كبرى واحدة ومحو نفوذ كل الدول الكبرى الأخرى، أو نحو تعددية قطبية تتوازن القوة فيها بعد حرب ضروس وتتوزع مسئولية القيادة على قطبين أو ثلاثة لا أكثر. يدرك العالم النامي بخاصة أن لا ناقة له أو جمل في هذا الاندفاع المتهور إلا حقيقة أن المعارك الكبيرة بين القوى المتصارعة حتى النهاية سوف تمتد لتجرى فوق أرضه وضد مصالحه وثرواته ومستقبله.
•••
السؤال المفجر لهذا المقال أثاره موقف الهند من الصراع الأمريكي الروسي الدائر على الأرض الأوكرانية. للهند دور في نشأة وقيادة حركة الحياد الإيجابي. ولكن الهند في خمسينيات القرن العشرين ليست هي الهند في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، وآسيا ليست آسيا والعالم ليس العالم. الهند اختلفت. الهند التي كانت دورا وقائدا في حد ذاتها أو مع أقران لها هي الآن، رغم تقدمها في التكنولوجيا والإنتاج الصناعي والزراعي، تقضي بعض وقتها باحثة عن اعتراف بها كإمبراطورية تاريخية من حقها لم شملها المتناثر. يؤمنون في حزبها الحاكم بسردية أمة هندية تعيش على أراضٍ تمتد في الشمال من أفغانستان وباكستان وبنغلاديش والتبت ونيبال وبوتان وسكيم وشرقا من ميانمار وجنوبا حتى سيريلانكا وفي المحيط الهندي حتى جزر المالديف.
يجمع بين فلاسفة العقيدة وقادة الحزب ومنهم الرئيس نارندرا مودي فكرة أن باكستان ليست أكثر من نبتة نزعتها بريطانيا من تربة الوطن الهندي، وأن استعادتها بكل الطرق هدف من أهداف حكومة الهند. أما الهيمنة الأمريكية وقبلها السوفييتية وقبلهما الاستعمار البريطاني والزحف الإسلامي من أقاليم وسط آسيا نحو الهند، فقد حاصرت جميعها أراضي وشعوب الحضارة الهندية وسلخت منها أقاليم شاسعة في وسط آسيا وجنوبها. الهند تاريخيا سابقة على نظريات وتطبيقات معاهدة وستفاليا ومبادئها. الهند التاريخية حسب عقيدة الحزب الحاكم ليست دولة ولن تقبل في مستقبل الأيام أن يعاملها الآخرون كدولة، لأن هذه المعاملة تفرض قسرا وعمدا إنكار حقها في الجزء الأغلب من إقليم جنوب آسيا وتفرض الخناق على ثقافة ممتدة في بطون التاريخ وقد آن أوان بعثها. الهند حسب وثائق العقيدة القومية والدينية كيان إمبراطوري لا يتسع له مفهوم الدولة. الهند في المستقبل لن تكون فقط دولة الهند كما خلفها الاستعمار البريطاني دولة مستقلة عند رحيله في نهاية عقد الأربعينيات من القرن العشرين.
•••
تابعت مسيرة الحزب الحاكم في الهند وصعوده العنيد، وتابعت تاريخ الرئيس مودي منذ ظهر على مسرح السياسة في ولاية جوجارات. تابعت أيضا نواحي الإثارة الجماهيرية في أنشطة التنظيم الأم الذي أنشئ عام 1925 ويقوده الآن موهان باجوات، كما تابعت أنشطة الحزب الذي يتفرع عنه، وبفضله وصل نارندرا مودي إلى الحكم. جدير بالذكر أن الرجل الذي اغتال المهاتما غاندي وكان من اتباع التنظيم هتف صارخا بشعار التنظيم لحظة شنقه، “تعيش الأمة الهندية غير مجزأة”.
ورث مودي تراثا متعدد الأبعاد. ورث نظاما سياسيا ديموقراطيا استمر عن اقتناع من جانب جميع حكام الهند بعد الاستقلال وكان مصدر فخرهم. تسبقهم في زياراتهم وفي المؤتمرات السياسية الدولية وتتكرر على ألسنة السياسيين الغربيين عبارة “الهند.. الديموقراطية الأكبر في العالم”. تحميهم في الداخل وتصون مكتسباتهم بيروقراطية حسنة التنظيم والإدارة وضع الإنجليز أسسها هي والنظام القضائي وتقاليد تضبط علاقة المدني بالعسكري، هكذا بقيت الهند حتى وقت قريب ليست فقط الديموقراطية الأكبر وإنما أيضا الدولة النامية ذات الاستقرار السياسي الأطول.
أقول بقيت حتى وقت قريب لأن الهند مثلها مثل معظم الدول النامية الأخرى لم تفلح تماما في التخلص من داء القومية المتطرفة ومشكلات العقيدة الدينية المتشددة وحساسيات التفرقة الدينية والعنصرية ووهج الأساطير الموروثة. كل واحدة من هذه المعضلات كان يمكن أن تتسبب في انفراط الهند مجددا بعد انفراطها الأول إلى دولتين فور الاستقلال. لم تنفرط مجددا لسببين على الأقل. السبب الأول، أنها تمتعت خلال معظم الفترة التي أعقبت إعلان الاستقلال بنخبة سياسية متفتحة وعلمانية ومؤمنة بالديموقراطية استطاعت باعتدالها ومرونتها التغلب على الصعوبات المترتبة عن رسوخ هذه المعضلات. السبب الثاني أن الهند انتهجت نهجا في السياسة الخارجية جنّبها الوقوع في شراك دوائر العنف في علاقاتها الخارجية. تجنبت سياسات الأحلاف وتفادت التبعية الاقتصادية والمالية وامتنعت عن ممارسة أطماع التوسع على حساب الجيران. الخلاصة أحسنت الهند في سياساتها الخارجية حين تمسكت بمبدأ عدم الانحياز إذ كافأها العالم باحترام مواقفها وحرص على عدم الضغط عليها لاستتباعها لطرف أو آخر.
•••
فجأة نشطت من جديد قوى الصراع في النظام العالمي. وفي رأي أصدقاء من الخبراء أن ما نشب لا يحمل كل صفات الفوضى، إنما هو طلائع ثورة في النظام العالمي قد تثبت لنفسها استحقاقها لقب الثورة الخاتمة في سلسلة ثورات وانتفاضات ثانوية نشبت خلال الفترة من سبعينيات القرن الماضي إلى اليوم. نتمعن في أمر هذه الفوضى أو الثورة فنرى بالوضوح الممكن دولة عظمى تستخدم كل أساليب العنف باستثناء أسلوب التدخل المباشر، الهدف غير المعلن هو إخلاء الساحة من القوى المنافسة الصاعدة بتدرج أو الصاعدة قفزا نحو القمة. على الناحية الأخرى تسعى روسيا الصاعدة بتدرج إلى استرداد شعوب ودول كانت تعيش في كنف موسكو، انفصلت عنها وتركتها لقيادة فاسدة أهملتها ثم لقيادة أخرى عازمة بكل العناد الممكن على استعادة ما سلب بالغواية والإغراء والتآمر وما انفصل بإرادته الحرة.
على هذه الناحية من النظام الدولي تقف أيضا الصين الصاعدة قفزا نحو القمة، تقف في انتظار هجمة أمريكية قادمة بدون أدنى شك. ومع ذلك أو بسبب ذلك أعلنت منذ بداية الأزمة الأوكرانية تعاطفها مع روسيا والاستعداد لدعمها إن دعت الحاجة. كان واضحا أن الصين، وهي مدركة التهديد المتوقع لأمنها الاقتصادي ولخطط صعودها لو أنها تحالفت مع روسيا ضد أمريكا، وضعت في حسبانها ضرورة كسب الوقت للاستعداد لما بعد انتهاء أمريكا من حملتها على روسيا. يتوقعون في موسكو وخارجها أن الصين لن تسمح قرب النهاية بسقوط روسيا وخروجها من سباق القمة. يتوقعون أيضا أن الصين بحكم تاريخها وموقعها وإنجازاتها في العالم النامي تستطيع أن تكسب تعاطف شعوبه وحكوماته، وهو ما فشلت في تحقيقه كل من روسيا وأمريكا على حد سواء.
الهدف من الحرب غير المعلنة والناشبة الآن هو تغيير بنية وقواعد عمل النظام العالمي ومؤسساته لصالح طرف أو طرفين أو الأطراف الثلاثة مجتمعة. النجاح في صنع وتنفيذ هذا التغيير يعنى وقوع ثورة في النظام الدولي وفي مجمل العلاقات الدولية. الفشل في صنع هذا التغيير أو في تنفيذه يعني بدون شك كبير أن العالم دخل أو على وشك أن يدخل مرحلة تنذر بالفوضى. بعض مكونات هذه الفوضى ليست خافية. نعرف مثلا أن الصين أدركت منذ سنوات أن روسيا القوة العظمى انحدرت ويتواصل انحدارها. نعرف أيضا أن الصين أدركت أن الولايات المتحدة انحدرت هي الأخرى ويتواصل انحدارها وهذا باعتراف وتصريحات آخر رئيسين أمريكيين وتقارير عن تراجع خطير في مخزون السلاح وتدهور البنية التحتية. نعرف كذلك أن الصين القوة العظمى الصاعدة قفزا لا تزال بعيدة عن الوصول إلى مبتغاها.
غير خاف السباق الآخر، سباق الأقطاب الثلاثة على الهند. وغير خاف أن للهند مشروعها الخاص، وغير مستبعد أن يكون لها دور أساسي في صنع الثورة أو الفوضى.. أيهما أقرب.
ينشر بالتزامن مع موقع بوابة الشروق