تفرد لبنان، يوم الجمعة الماضي، الواقع في 25 ايار (مايو) بالاحتفال بعيد التحرير،
فيوم 25 ايار (مايو) 2000، ومع انبلاج الفجر، كانت قوات الاحتلال الاسرائيلي التي اقتحمت لبنان مرة اولى في العام 1972، ثم احتلت معظم انحائه بما فيها العاصمة بيروت، مروراً بالقصر الجمهوري في بعبدا، في 4 حزيران (يونيه) 1982، تنسحب متعثرة بأذيالها، على وقع ضربات المقاومة الوطنية ـ الاسلامية، التي قاتلت قتالاً مجيداً مصبوغاً بدماء الشهداء، حتى تمكنت من طرد العدو الاسرائيلي محررة كامل ارض الوطن الصغير والجميل: لبنان.
كانت تلك اول وأخطر هزيمة تلحق بالعدو الاسرائيلي، وتضطره إلى الانسحاب، مع صياح الديك، بينما صواريخ المقاومة وبنادق مقاتليها تطارده إلى ما بعد الحدود مع فلسطين المحتلة.
وهكذا سجلت المقاومة في لبنان، الصغير بحجمه، القوي بإجماع اللبنانيين على ارادة المقاومة مهما بلغت التضحيات، نصراً باهراً على العدو الاسرائيلي، فبات للبنان (والعرب) عيد نصر حقيقياً تمثل بطرد “العدو الذي لا يُقهر” من ارض احتلها بالقوة مستغلاً ظروفاً ملتبسة نجمت عن العجز عن مواجهة موجبات الصراع العربي ـ الاسرائيلي والانشغال عن القضية المقدسة، فلسطين، والتسليم بالتفوق الاسرائيلي وكأنه قدر لا يرد.
لم يقصر الاشقاء العرب في ازجاء التهاني لشعب لبنان ودولته، وان كان بعض دبلوماسيي بلاد النفط والغاز قد غمزوا، مع المجاملة، من قناة إيران افتراضا منهم أن السلاح أعظم تأثيراً من دماء الشهداء الذين استبسلوا في مواجهة العدو الاسرائيلي حتى اجبروه على الجلاء مدحوراً.
سقى الله أيام زمان: كان لكل دولة عربية يوم فرح بجلاء المستعمر أو المحتل الاجنبي عن ارضها عيد تعتبره، وكانت اناشيد العزة والفخر بالانتماء إلى امة عريقة تغمر الشوارع بالفرح والنفوس تمتلئ بشعور القدرة على الانجاز.
اليوم، يتبدى الوطن العربي وكأنه بلا اعياد وطنية ـ قومية، بغض النظر عن الاحتفالات الفولكلورية التي تُظهر النقص الفاضح في ارادة الاستقلال وفي موجباته والتي تتبدى جلية في ثياب العسكر كما في اسلحتهم البرية والجوية والبحرية، بينما يجلس “الخبراء” الذين اوفدتهم “الدول الصديقة” للإشراف على “حسن سير الامور” وابلاغ الخصوم المحتملين أن “امن هذه البلاد هو … مسؤولية دولية”!
وها هي المجازر التي ارتكبها ويرتكبها العدو الاسرائيلي ضد شعب فلسطين في غزة، تمر وتتكرر دورياً دون حساب او عقاب… ولم تعد معظم الدول العربية لتهتم ولو بإصدار بيانات الاستنكار والشجب والادانة الخ.. تاركة للسلطة الفلسطينية التي لا سلطة أن تتصرف، فلا تجد امامها الا المؤسسات الدولية والعربية المفرغة من المضمون ومن القدرة على اتخاذ أي قرار، فتكتفي ببيانات الشجب والاستنكار، وكفى الله المؤمنين شر القتال.
تنفجر او تتفجر سوريا بحرب فيها وعليها، سرعان ما يتبدى واضحاً أن لبعض الدول العربية الاكثر غنى بالنفط والغاز دوراً اساسيا فيها، بذريعة مواجهة “التمدد الفارسي”، في حين يكتسب التدخل العسكري الروسي أبعاداً استراتيجية، ويتحول إلى ذريعة لتدخل عسكري تركي في الشمال السوري، ثم لتدخل عسكري اميركي في الشرق السوري، مع جيوب لتدخل عسكري فرنسي تحت حماية اميركية ـ تركية، بينما قوات مسلحة تابعة للحرس الثوري الايراني، معززة بقوات تابعة لـ”حزب الله” اللبناني تقاتل إلى جانب الجيش السوري في جبهات عدة.
وها أن الحرب في سوريا وعليها تدخل عامها الثامن من دون أن يتبلور مشروع حل يحفظ كرامة هذا الشعب الذي كان طليعة للنضال العربي من اجل التحرر وتحقيق حلم الوحدة العربية..
أما العراق الذي يحاول جاهداً أن يتخفف من آثار حكم الطغيان. وأخطرها، قبل الاحتلال الاميركي (الدولي) ومعه، الانقسام الخطير الذي ضرب وحدة الشعب ودمر الدولة ومؤسساتها العسكرية والادارية، وخرب الاقتصاد، وأغرى به جيرانه من دول النفط والغاز فحاولوا أن يقاسموا الاجنبي بعض خيرات ارض الرافدين..
وها هو الآن يحاول النهوض من تحت الركام، مطارداً ما تبقى من فلول عصابات “داعش” التي احتلت، ذات يوم، اكثر من نصف مساحته، وكادت تدمر وحدته الوطنية مغذية العصبيات الطائفية والعرقية (سني ـ شيعي، عربي ـ كردي، اشوري ـ كلداني، أزيدية وصابئة الخ).. وقد كان لتلك العصابات سند من بعض دول النفط والغاز، بهدف الهيمنة على ارض الرافدين التي تنافس دولتها مصر وسوريا في عراقتها وامجادها التاريخية.
أما اليمن فجريمة عربية موصوفة، يعرف العرب في الجزيرة العربية وخارجها تفاصيلها الكاملة: بدأ الأمر بانقسام يمني ـ يمني بين الحكم والمعارضة، ثم الوصول إلى صيغة تفاهم داخلي.. لكن “الجيران” لم يرتضوا هذا الحل فتدخلوا عسكرياً، محولين الخلاف الداخلي الى حرب اهلية مفتوحة مقررين انهم انما تدخلوا لضرب التحالف بين الحوثيين وايران… (والحوثيون زيود ـ والزيود طائفة قريبة من المذهب الشيعي، وهم الاكثرية النسبية، في حين أن “الشوافع” أي اهل السنة، هم اكثرية في الجنوب وأقل من النصف في عموم اليمن..)
اليمن اليوم تعيش كارثة حقيقية يلتهم اطفالها الكوليرا ويعاني شعبها عموماً الجوع، خصوصاً وان الطيران الحربي الشقيق يطارده بالقصف اليومي، وتشارك دولة الامارات التي تبين أن لديها جيشاً وطيرانا وبحرية بحيث استولت على جزيرة سوقطره، من وراء ظهر السعودية، ثم اضطرت إلى الاعتذار وابدت استعدادها للانسحاب.. التكتيكي..
بالمقابل فان الازمة مجهولة الاسباب حتى إشعار آخر، بين السعودية وسائر دول الخليج (ما عدا الكويت التي تبرعت بدور الوسيط) وقطر من الجهة الاخرى تبدو حتى الساعة مستعصية على الحل.. والنتيجة المباشرة لهذه الازمة أن الولايات المتحدة قد اقامت بل هي وسعت قاعدة العيديد في قطر، في حين أن تركيا التي انحازت ـ بالنكاية ـ لقطر، قد اقامت، هي الأخرى، قاعدة عسكرية في الدوحة.
يمكن القول الآن أن القواعد العسكرية الاميركية تملأ أرض الجزيرة والخليج وفضاءهما … تساندها بعض قوات التحالف الدولي (كما في العراق) الذي يضم اليها بريطانيا وفرنسا وقوات رمزية من دول أخرى..
واذا ما تحولنا إلى المغرب العربي نجد أن ليبيا قد غدت مزقاً متناثرة، وان بعض دول الخليج العربي (قطر والامارات) قد أوفدت قوات (؟) اليها، وان الجزائر تعيش مشلولة السياسة في ظل رئيسها القعيد… بينما المغرب منحاز، بملكيه المتحدر من اسرة علوية ـ هاشمية، إلى الاسر المالكة في الجزيرة والخليج، تحت الرعاية الاميركية.. اما تونس فتعيش قلقاً على مصير الثورة التي عجزت عن تجاوز النظام البورقيبي وان كان كانت تحكم بالشخصيات التي صمدت بعمرها وظلت شاهدة على انه بقي أقوى من الثورة الناقصة.
*****
في ذكرى تحرير لبنان من ربقة الاحتلال الاسرائيلي، في مثل هذه الايام من العام 2000، اردنا من هذا التوصيف الجارح للأوضاع العربية الراهنة، أن نقول أن التحرير ليس مهمة مستحيلة، ولكنه ممكن وقابل لان يتحقق متى توفرت الارادة..
والغد العربي ينتظر المؤهلين على صنعه بما يحفظ كرامتهم وحقهم في مستقبل أفضل، ولو بدمائهم!
وها هو شعب فلسطين يواجه، وحيدا، اعداء حقه في ارضه، واعداء الغد العربي الافضل على مدى اتساع هذا الوطن العربي الكبير!
ينشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية