الظاهرة مفجعة في قسوتها، لكنها حقيقية: فثمة غربة كاملة بين الانتخابات وبين الحدث الجلل الذي صنعه لبنان المقاوم فافتتح به تاريخا جديدا للصراع العربي الإسرائيلي وللمنطقة برمتها.
أزاح دم المجاهدين، وصمود أهلهم، صغارا وكبارا، الاحتلال الإسرائيلي مجللاً بالهزيمة… واستعادت الأرض حريتها وأهلها وعصافيرها وفراشاتها وأشجارها والبيوت، وجلس التلامذة إلى مقاعدهم يؤدون امتحاناتهم في المدارس التي طالما هزّها القصف وأحرقت الصواريخ والقذائف الكتب والكراسات، وجرَّحت وجوه الفتية الصغار وحفرت في ذاكرتهم صورا لا تُنسى للعلم في قلب الخطر، في قلب النار الإسرائيلية،
تبدّلت صورة لبنان جذرياً، وإلى حد كبير صورة المنطقة،
مع الجلاء الإسرائيلي انحسر خطر الفتنة، وبات يمكن التأريخ لهزيمة الحرب الأهلية ومشاريعها المدمرة، والتقسيم أولها، بعيد النصر والتحرير في 25 أيار 2000.
عاد الأهالي إلى بيوتهم المهجورة، يرمّمون ما خرّبه الاحتلال أو يعيدون بناء المدمّر والمنسوف منها، أو يبنون بيوتا جديدة، أعلى من القديمة، وبشبابيك مطلية بالزاهي من الألوان، وبأحواض للورد والياسمين والقرنفل والفل استخدمت فيها بقايا الصواريخ والقذائف التي قتلت من قبل العطر والأريج ورائحة المباركة الأرض،
انفتحت معركة هائلة حول »الحدود«، لما تنتهِ بالقبول بخط لارسن الذي رسمته الأمم المتحدة كحلّ مؤقت، لطي صفحة الاحتلال،
انشغل العالم بلبنان وحدوده والخروقات، ولو بالأمتار، كما لم ينشغل بمثل هذه الأمور في أي مكان في العالم: من أمبراطور الكون الأميركي الى مساعده للمهمات الصعبة (وغير النظيفة؟) الأوروبي عموما والفرنسي خصوصا، الى »خصمه« الروسي و»عدوه الافتراضي« الصيني،
إلا المرشحون للانتخابات النيابية في لبنان، وإلا قواعد هذه اللعبة الموسمية البليدة، وإلا مؤهلات الطامحين للوصول الى الندوة النيابية، وإلا أسس »التحالفات« التي تصطنع الناجحين منهم وتبعد غير المرغوبين فيهم، أو المشاكسين أو »الخصوم المحتملين«، إن وُجدوا!
الغربة مطلقة، كأن التحرير حدث عابر، بينما الانتخابات هي المصير!
كأن التحرير جملة معترضة في سياق لا يمكن الخروج عنه أو التأثير فيه، ناهيك بتبديله جذريا.
كأن »المرشحين« وغالبهم يرى نفسه أكبر من أن يكون موضع استفتاء، وصلوا للتوّ من ميدان المعركة، وما زال على وجوههم غبار الموت الذي هزموه، وفي أيديهم »الأسلاب« التي غنموها من عدوهم الذي أُخرج بقوة الإرادة وبقوة الإيمان قبل السلاح الذي يملك فيه تفوقا مطلقا أمكن تعطيله بالمواجهة باللحم الحي وبصلابة الصمود الذي اتسم بطابع الجهاد المقدس.
ان اكثرية النواب يرون الانتخابات »لزوم ما لا يلزم«، ومجرد امتحان شكلي قد يكلفهم بعض المال وبعض العناء وبعض المجاملات التي كان يُستحسن تجاوزها طالما انهم فائزون بامتياز، يرتفع فوق التزكية الى ما يقارب الحق الالهي!
كل ما تبدل في خطاب المناسبة كلمات معدودة تنسب صاحبها زوراً وبهتاناً في الكثير من الحالات الى ابطال التحرير، او الى الجهد المبارك من اجل هذا الانجاز الوطني والقومي العظيم!
أُضيفت كلمات فخمة الدوي الى الخطاب القديم، وأُسقطت اسماء لتحل محلها اسماء جديدة لتوكيد صلة النسب مع الحدث الجديد وابطاله الميامين،
غداً وبعد غد، وعلى امتداد ما تبقى من ايام تفصلنا عن موعد رمي الاوراق في الصندوقة، سترفق الصور الملونة بشعارات اكثر تلوناً وافصح تعبيراً عن مشاركة هؤلاء الابطال في معركة المقاومة والتحرير، او التحرير بالمقاومة.
ليس ارخص من الكلام الا الصور التي غالباً ما تفضح اصحابها البكم،
لقد استهلك اهل السياسة الذين كانوا، في الغالب الاعم، خارج الجهد من اجل التحرير، الكلمات والمعاني والدلالات الكبرى للانجاز الباهر: التحرير.
انهم، كالعادة، يأخذون فقط!
انهم، كالعادة، يزوِّرون الوقائع ليضمنوا فوزهم بالغنيمة!
الى هذا الحد ينفصل »الحدث السياسي الافخم«، نظرياً، اي الانتخابات، عن »الانجاز السياسي الاعظم« اي التحرير!
كأن التحرير يقع خارج السياسة، على الاقل بالمعنى الذي يمارسها فيه النواب المرشحون النواب!
اي ان التحرير كفعل تغيير جذري، على الارض وفي النفوس، في المعادلات والموازين السياسية، دولياً وعربياً ولبنانياً، يبقى خارج دائرة التأثير بالمعنى السياسي المحلي…
لا المرشحون يقدمون اوراق اعتمادهم على قاعدة مشاركتهم في هذا الحد،
ولا الناخبون يحاسبون »نوابهم« بحسب مشاركتهم فيه!
وهكذا فإن لعبة الانتخابات تبقى خارج اهتمامات الناس،
بل لعلهم يحسون انها انما تتم على حساب اهتماماتهم الفعلية،
فلا هي ستؤثر في تفريج كربتهم المعيشية نتيجة الركود الاقتصادي الذي يتحول تدريجياً الى انهيارات متلاحقة تهدد بأن تذهب بمقومات حياتهم،
ولا هي سترفع من مستوى ممارستهم حقوقهم الديموقراطية، في المحاسبة ومن ثم في الاختيار،
لهذا كله فهم يتعاطون مع الانتخابات وكأنها شريط سينمائي قديم سبق لهم ان شاهدوه مراراً فلم يعد فيه ما يجذب او يثير الانتباه!
لكأنهم ذهبوا مرة الى صناديق الاقتراع، وهي كافية،
ربما لهذا لا يجدون الآن ضرورة للحصول على البطاقة الانتخابية!
ثم انهم لو ذهبوا يطلبونها لما وجدوها!
فمن يعطيها يعرف كي يعيد الشريط القديم، او كيف يعيد انتاجه مع قليل من التعديلات جذباً لجمهور يعرف انه خارج دائرة الاهتمام، وبالتالي خارج دائرة الفعل.
مبروك للسادة الفائزين في الانتخابات الاولى… قبل الميلاد وبالتالي قبل التحرير!
بحث
Subscribe to Updates
Get the latest creative news from FooBar about art, design and business.
المقالات ذات الصلة
© 2024 جميع الحقوق محفوظة – طلال سلمان