عشقتُ طرابلس وانا فتى، وأحببتها واهلي يعيشون فيها سنوات لان والدي الرقيب الاول في الدرك خدم فيها وفي جوارها، مخفر الدعتور، مخفر المنية، مخفر العبده، قبل أن يتقاعد، ولهجة اخوتي الاصغر مني تخالطها لكنة طرابلسية… أما والدتي فقد كانت تستذكر دائماً، أن طرابلس ام الفقير.
ثم احببتها بعقلي وهي ترسخ ايماني بعروبتي وتؤكد في هويتي عبر شارعها الوطني الذي طالما حمى تاريخنا النضالي.
واذكر أن اول مقابلة صحافية اجريتها لمجلة “الحوادث” ابان ثورة 1958، كانت مع الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وكان قد اتخذ من بيت في محلة ابي سمرا مقراً له، وقد لفته صغر سني وجرأتي في طرح الاسئلة، فانتقل من موقع المجيب إلى موقع السائل ليتعرف إلى هذا الفتى الذي لا يقنع بالأجوبة المقتضبة بل يصر على التوغل في الاسئلة الشائكة.
ولقد توطدت علاقتي به، رحمه الله، بقدر ما تمسح ظروفه، وأذكر، من باب الطرافة، انني لاعبته برتية محبوسة في طاولة الزهر، على متن الطائرة الخاصة التي اقلت وفد المعارضة إلى جنيف.. في حين كان وليد جنبلاط الشاب آنذاك، يجلس ارضاً ليلتقط الصورة التذكارية المعبرة، والافندي الذي جانبه الحظ يردد بشيء من العتب على زهره: يا سلام!
اعترف انني نشأت مشدوداً بالعاطفة ثم بالموقف الوطني بعمقه القومي إلى عائلة آل كرامي، وقد تربينا على احترام تاريخ الراحل الكبير عبد الحميد كرامي، ثم شدنا التزام “رشيد افندي” بمسار والده، قبل أن تنتقل الراية إلى الرئيس عمر كرامي حيث ترسخت الصداقة وامتدت حتى اليوم الأخير… وفي منزله أسهمت مع عصبة الخمسة، جان عبيد وتوفيق سلطان ورشيد درباس ومحمود طبو في كتابة مسودة خطاب الرثاء لشهيد الوطن ودولته وفلسطين بل العروبة رشيد عبد الحميد كرامي.
ثم أن لطرابلس ومعها الميناء باهلهما جميعاً دينا واجب السداد، أذ انها كانت حاضنة ممتازة لـ”السفير”، منذ صدورها في مثل هذه الايام من العام 1974… ولقد حرصنا على الاستمرار في ارسال “السفير” يومياً إلى هذه المدينة، قلعة الوطنية والعروبة، خلال سنوات الحرب الاهلية برغم قرار الميليشيات الطائفية منع وصولنا اليها.. وهكذا كان علينا أن نقطع الطريق الطويل من بيروت إلى البقاع بامتداده ثم الانعطاف عبر عكار للوصول إلى قلعة العروبة، هنا… وقيل يومها أن “السفير” صحيفة صباحية في بيروت وصحيفة مسائية في طرابلس وسائر الشمال.
ولقد كرمت طرابلس باهلها وجوارها جميعاً “السفير” أكثر من مرة، في الذكرى العشرين لصدورها وذلك في القلعة التي تربط طرابلس والميناء، وبعدها، في اكثر من منتدى ومجمع ثقافي، فضلاً عن اننا كنا نشعر أن بيوت الطرابلسيين جميعاً مفتوحة لنا.
أما الرئيس الراحل عمر كرامي فقد كان وعائلته أخاً كريماً وصديقاً حميماً.. ولقد تشاركنا الافراح والتعازي، ووقف إلى جانب “السفير” في مواجهة الظلم والاعتداءات التي كثيراً ما تعرضتُ لها سواء بعائلتي وبشخصي ام بمطبعتها ومبناها واسرة تحريرها.. وواجه إلى جانبا التعطيل الظالم في العام 1993.
أخي فيصل
أيها الحضور الكريم
اسرد هذا التاريخ الحميم لأدلل على عمق العلاقة التي ربطت بين طرابلس والطرابلسيين، وآل كرامي في طليعتهم، وبين “السفير” التي طوت اعلامها من قبل أن تطفئ شمعتها الرابعة والاربعين..
مع ذلك فقد بادر كثير من الاصدقاء إلى احياء عيد “السفير”، في بيروت والبقاع والجنوب، تقديراً لدورها التاريخي في خدمة قضايا امتها بعنوان فلسطين، وقضايا شعبها في هذا الوطن الصغير تحت شعارها “صوت الذين لا صوت لهم ـ جريدة لبنان في الوطن العربي، جريدة الوطن العربي في لبنان”.
ولا يفوتني أن انوه، بشكل خاص، بالدعم الذي قدمه دولة الرئيس نجيب ميقاتي، حين دخل مساهماً في شركة اصدار “السفير” متحملاً معنا بعض الخسارة البديهية التي تحملناها نتيجة انحسار الدخل الاعلاني واقفال ابواب العواصم العربية، بالحرب او بالقرار السياسي الظالم، في وجهنا..
ولا أنسى أن اشكر ايضاً، معالي الوزير محمد الصفدي على مبادرته إلى المساهمة باشتراك رمزي، وأكثر من مرة، دعماً لـ”السفير” وخطها.
مع التنويه بالنشاط الذي بذله مكتب “السفير” في طرابلس، على امتداد عمرها، من رحل منهم من مراسليها ومن بقي يواصل نشاطه، وأخص بالذكر الزميلان خضر طالب وغسان ريفي.. ومن عمل قبلهما ثم معهما لنؤدي خدمتنا على أكمل وجه.
أخي فيصل
ليس مستغرباً أن تبادر إلى تكريم “السفير” حتى وهي تذهب من السوق إلى الذاكرة مثقلة بتاريخها الحافل بإسهامها في رفع صوت القوى الوطنية ـ القومية ـ التقدمية.. حاضنة هموم طرابلس والشمال، وهي ثقيلة كما هموم منطقتي بلاد بعلبك وسائر المحرومين من دولتهم في مختلف المحافظات، بما فيها بيروت.
أتمنى أن اكون اتممت واجبي في خدمة قضايا وطننا وأمتنا، وبينها أن “السفير” كانت صوت المقاومة وداعيتها ومنبرها وهي تقدم الدماء الزكية في معركة تحرير الجنوب والبقاع الغربي من الاحتلال الاسرائيلي، ثم وهي تواجه هذا الاحتلال وتصده في حرب 2006 مقدمة لأهلنا في الجنوب سهرات ممتعة على وهج نيران دبابات العدو الاسرائيلي وهي تحترق.
أتمنى لك النجاح، اخي فيصل، في حمل تراث عائلتك المميز والممتاز، وفي تأدية رسالتك ـ بالتعاون مع اخوانك من قادة الرأي والعمل السياسي ـ في الفيحاء، شاكراً لك مبادرتك إلى استذكار “السفير” التي لا يحجب تاريخها المضيء غياب ورقها عن أيدي الباعة.
شكراً لك وللإخوة معنا جميعاً على هذا اللقاء الحميم.
وفقكم الله ورعاكم وحفظ الفيحاء واعاد اليها صورتها الاولى كقلعة للنضال الوطني ـ القومي والتي يحمل تراب فلسطين نجيع بعض شهدائها في مواجهة العدو الاسرائيلي الذي ـ نجح بالتواطؤ الدولي والتخاذل العربي في احتلالها.
حفظكم الله ورعاكم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كلمة القيت في الاحتفال التكريمي الذي اقامه الوزير فيصل كرامي في طرابلس