لم أدرس النقد ولا اعرف اصوله… لكنني اعترف بأنني اميل الى المشاكسة النقدية… ولا اعرف منذ متى اكتسبت هذه الهواية، لكنها بدأت تتحرك في احشائي، منذ ان تعرفت الى شخصية غرائبية على الورق، فشعرت بارتباطها بعالم شبحي غامض… انها شخصية »نسمة«؛ تلك الشخصية التي تمتهن الحب لتعتاش.
منذ مدة وأنا احاول التعرف الى »نسمة«… لم ادع مفرقا ولا »كوعا« في »هوامش« طلال سلمان إلا وسلكته… وصلت الى حافة اليأس لانني لم اجد »نسمة« في اي مكان… ولفترة لازمني شعور حاد بأن شخصية »نسمة« قد لا تكون حقيقية… او قد تكون طيفا لشخص ما التقاه طلال سلمان في حياة سابقة لا يتذكر تفاصيلها.
وفي ظل ترحالي ما بين سياسة طلال سلمان ووطنيته و»على طريقه«، وبعض مقالاته الباردة والجافة، رأيت »نسمة«… فاصطدمت بواقع مدهش، ألا وهو ان »نسمة« هو طلال سلمان الآخر… واقواله في الحب انما تأتي تنفيسا لضغوطات متابعاته للاحداث والسياسة… يهرب من كل هذا، ليتقمص شخصية نسمة… اخترع الاسم لكي لا يعلن نفسه…
طلال سلمان مع نسمة هو شخص آخر… شخص لا شأن له بالسياسة وجَفافها… هو إنسان عاشق ولهان، يفجر كوامنه من خلال نسمة العرّاف بالاشواق، فيتحفنا بأحلام ذات وشائح عميقة، واقوال تتسم بالحب والعاطفة والايحاءات الجنسية البريئة.
خاب املي كثيرا عندما توصلت لاكتشاف هذه الحقيقة… وللمرة الاولى ألعن ذكائي الذي ولد من غبائي المفرط… لم اكن اريد ان اكتشف ذلك… لا يمكن ان يكون طلال سلمان هو نسمة… ألا يكفي انني لا اعرف »النقد«! لكنني اعرف انني لن اكون بنّاءة في نقدي الذي لا اعرف كيف ابدأه… وذلك لانني اكره لغة طلال سلمان الاولى واعشق الثانية… اكره طلال سلمان المحلل السياسي البارد الذي رأسي الفارغ لم يستوعبه… واحب »نسمة« ذلك المبدع بالفطرة في اقواله ورؤاه وتجاربه… استمتع بأقواله، وتتحول حروفه الى صور تدفع باللذة الى شراييني.
شيء ما…
شيء ما بدّل في طبائع طلال سلمان… شيء ما دفعه الى »اختيار كلماته من قاموس كان مخبوءا«… شيء ما دفعه لابتكار »نسمة«… ليتحدث الى الآخر من دون ضوابط او خجل… شيء ما دفعه للاعتناء »بكتاباته حتى يقرّبها من الشعر«… في احدى المرات، تساءل »نسمة«: »أتراني وقعت؟«.
وهنا اتساءل أنا: وقع في ماذا يا ترى؟؟
لكنه يجيب نفسه بنفسه، قائلا: »منحني الحب قدرات هائلة… انني الآن اعطي بلا حدود… الحب قوة سحرية هائلة… انه يؤكد انسانيتنا حين يكشف ضعفنا…«.
الحب مختلف مع »نسمة«، لانه يضيف له ابعادا جديدة واحتمالات اخرى للحياة. نسمة هو صديق للافكار البرية المتوحشة الهاربة من ترهلات الحب التقليدي وسطحية العاطفة المحدودة… احيانا »نسمة« يهذي بكلمات لا يدرك معناها من شدة الفرح… ان الخوض في »نسمة«، ذلك الملاك الداخلي لطلال سلمان الذي يدغدغ ذكرياته، يحيي في نفسه مشاعر كان قد حبسها لمدة طويلة.
رويدا رويدا، بدأت بالتعرف الى طلال سلمان من خلال »نسمة«. وفهمت كتلة مقالاته المعقدة احيانا… اكتشفت انه يعيش اربع شخصيات هي: السياسي، العاشق، الطفل، والوحيد… احيانا يبدو وكأنه موشك على الانهيار، كما لو انه صخرة كبيرة ستقع وتنفصل عن جبل شاهق… فأخرج »نسمة« من داخله… لنقطفها اسبوعيا من ذيل »هوامشه«.
لأوّل مرة تعرفت الى طلال سلمان شكلا في مدرسة طفولتي ومراهقتي »الانجيلية« في صيدا، ومن بعيد، تعمق عندي احساس بأنه خائف ووحيد.
كنت أعتقد ان هذا الرجل لا يمشي على الارض مثلنا… بل يطير فوقها واقفا كأنه يمشي او مدعيا انه يمشي… لكنه بدا لي انه وحيد… هارب نحو الداخل… حيث طلال سلمان، الانسان الحقيقي، يختفي خلف قناع »نسمة«، الذي وجد فيه حلما ما زال يحلمه في اليقظة والمنام ليعوّض به انغماسه في غابة الصحافة والسياسة ومآسي العالم والحروب المتوحشة.
فرق كبير بين لغتين لرجل واحد: لغة السياسة الباردة ولغة الاحاسيس الدافئة!
اللغة الاولى هي لغة مبهمة، محدودة، كئيبة، غليظة، صارمة، حادة، يابسة… تضع اكثر المواضيع بساطة في خانة التعقيدات وتجعلها موضع مساءلة… هي لغة الهموم المنهمرة، والتي ترتجف، مثل الوتر المشدود في انتظار عودة زمن البراءة… هذه اللغة ثقيلة كالدمعة المحملة بآلاف التساؤلات عن الوطن والانسان.
اما اللغة الثانية، فهي لغة الحب، حيث »يصير الليل ضفيرتين لقمر«… لغة منشرحة مكسوة بالغيم، والصحو… لغة مجنونة، لا تنبثق إلا إذا كان طلال سلمان وحده في خلوته، حيث تتوارى الاخبار والاحداث والسياسة بعيدا… فيبزغ جنونه، ويجرف معه رجولته ليثير الشبق الانثوي في وجدان القارئات وليشعل النيران في جوارح القراء الذكور.
الفرق بين اللغتين، ان الاولى لا ترى سوى القبيح في العالم، بينما الثانية لا ترى سوى جمالية الكائنات من حولها.
من خلال »نسمة«، يهرب طلال سلمان من نفسه الى نفسه، الى الداخل نحو الاعماق… فيبرز طلال سلمان الحقيقي… لكنه يحاول الهرب من اتهامه بالرومانسية عبر استعمال ضمير »هو« و»صديقي نسمة«.
هو ليس باردا، كما يبدو من خلال بعض كتاباته… ولكن قد تكون جذوره المجبولة بقسوة البقاع المتخمة بمخالب حضارية حادة، هي السبب في دفقه الابداعي، المشحون بجنون التمرد.
»نسمة« هو دغدغة لأحاسيسنا المختبئة التي نخجل بالبوح بها، تسكرنا برنينها… وتتناغم مع لاشعورياتنا… برغم انها متراكمة بملامح من الانانية والنرجسية الحلوة… والحماقة والجنون، تتبعنا وتريحنا حين تنسلّ لغة متعبة الى الظلام وسط احلام حطمتها عواصف القهر والمستحيلات.
احيانا، يبدو لي طلال سلمان متأثرا جدا بنزار قباني… فهو حينما قال: »هل قلت إنك نساء الارض جميعا؟! هذا غير صحيح… انتِ… ثم النساء جميعا…«، هنا، يبدو انه توحد في حبّه مع نزار، الى درجة ان الجمل متشابهة.
عندما يقول »نسمة«: »النساء كثيرات… لكن واحدة بالذات هي المرأة… والباقيات تفاصيل متحلقة في نون النسوة…« يقابلها ما كتبه نزار قباني في ديوانه »الحب لا يقف على الضوء الاحمر«، حين قال: »إن الغرابة كلها… اني محاط بالنساء، ولا أرى احدا سواك«. كما يوافقه طلال سلمان في »هوامشه«، فيقول: »قالت: أراك في كل رجل. قال: أما أنا فلا أرى من النساء إلاك«.
ما أجمل تعقيداته…
رجل لا يكف عن إدهاشي وإغضابي… احيانا يعيده الحب الى »طفولته، يلهو ويعبث متجاوزا قيود الاصول التي يفرضها النفاق…«، فيبتكر لغة طفولية شقية… وكأنه يستعيد دفء حلم مضى، وتركه وحيدا كالمطر.
واحيانا يتحول الى مراهق، فتظهر رغباته وشهواته نافرة في حروف »نسمة«. ومختبئة خلف غيمات ذابلة.
تارة أراه وحيدا، ينزوي بعزلته ليكتب ويثير الصخب والشجن… واقفاً بلا حواس ولا ملامح… مثل عصفور مهمَل لا يرأف احد به… فيطلق عند الفجر عويلا اخرس في فراغ يحتضر.
وكثيرا ما اجده خائفا في هوامشه واقوال »نسمة«، كأنه يمشي على حافة الليل، يرافقه شبح كهولته الشبابية.
ادرك كل الادراك انني حين اكتب عن »نسمة« فأنا بذلك أسيء إليه… واظلمه لانني ببساطة لست بمستوى عمق وتوهج افكاره ونظرياته… ولكن هناك ذكاء في المزج ما بين العشق والسياسة والوطنية في اقوال حبّه…
وسيظل يطل عليّ »نسمة« اسبوعيا بأقواله التي كلما قرأتها، اشعر بأهدابي تمطر رذاذ الانوثة، وكأنني عروس بأجنحة غير مرئية… تقود العالم لتهبهم غبطة العصافير وحرية المدى، تزرع في ضلوعي الاحلام وتمرّغ معاناتي في ريش الفراغ.
سأظل اطارد لغة توأم انشقاق طلال سلمان ورفيق دربه المجنون، وسأظل ألعقها بوجداني.
جيهان القيسي