في افتتاحيته المعنونة “هيكل، الصحافة العربية: كتب تاريخنا ومضى” بتاريخ 18 شباط/ فبراير 2016 غداة رحيل الصحافي محمد حسنين هيكل يكتب طلال سلمان (1938-2023) في رثائه: “اختار ‘الأستاذ‘ لحظة رحيله، أغلق الباب على نفسه حتى لا تهتز صورته في عيون أفراد عائلته، أراد أن يظل قويًا حتى النفس الأخير”، ولا ندري إن كان طلال سلمان نفسه قد اختار لجريدة لبنان والعالم العربي “السفير” المصير نفسه، وهي التي كتبت تاريخنا على مدى ثلاثة وأربعين عامًا، وأرادها أن تظل قوية حتى النفس الأخير، وكي لا تهتز صورتها بعد رحيله لأنه كان يعلم أن ساعة غيابه غير متأخرة، فأغلق الباب على حقبة استثنائية من تاريخنا كانت السفير أحد أركانها الأساسية الفاعلة في الكلمة والتأثير والتغيير وحيث اختار إغلاقها في الرابع من كانون الثاني/ يناير 2017. إغلاق ترك الكثير من الحزن فينا كلنا، نحن الذين كنا ننتظرها كل صباح وننتظر افتتاحيته “على الطريق”، التي بدأها بمشروعه الإنساني والعروبي في 26 آذار/ مارس 1974 بعنوان “السفير: الجريدة والمهمة” محددًا مهمتها “جريدة ذات مهمة محددة تمامًا هي: الدفاع عن الأمة، الأمة العربية، لذا فهي جريدة مقاتلة: تقاتل مع المناضلين من أجل إعادة الاعتبار إلى الإنسان العربي… جريدة جديدة تحاول أن تكون صوت الذي لا صوت لهم… جريدة جديدة لا ترى لبنان ‘شيئًا آخر‘ غير العرب”.
يرحل طلال سلمان وحيدًا، رغم كثرته، وحجم إرثه الذي يمتد على كامل الأرض العربية، إرث لا يزال يشعّ حتى لو قُدّر له أن ينطفئ، يخصنا جميعًا، يخص فلسطين أولًا، وبيروت ودمشق والقاهرة وبغداد وكل عاصمة عربية. إذ لا يمكن الحديث عن سلمان دون السفير وقد حمل فلسطين على كتفه، عددًا بعد عدد، وكتابًا بعد آخر، وحَزِن لبيروت تتداعى تحت أقدام الاقتتال الداخلي/ الخارجي وكتب لها “إلى أميرة اسمها بيروت” عام 1985، وإذ يصف نفسه في كتابه “كتابة على جدار الصحافة” (2012) بأنه “واحد من متخرجي بيروت عاصمة العروبة”، حيث تنقّل بين العديد من الصحف البيروتية قبل إطلاق مشروعه “السفير”، مستهلًا مسيرته مُصحّحًا في جريدة “النضال”، فمخبرًا صحافيًا في جريدة “الشرق”، لكن دخوله الحقيقي إلى عالم الصحافة كان من باب مجلة “الحوادث” الأسبوعية للصحافي الراحل سليم اللوزي والتي عُرفت بجرأتها وتحدّيها للسلطة، فكان فيها محررًا ثم سكرتيرًا للتحرير وكان لا يزال في العشرين من عمره، ثم انضم مديرًا للتحرير إلى مجلة “الأحد” عام 1960.
في عام 1962 ستأخذه الطريق محملًا بوجوهه الفكرية والصحافية والنضالية إلى الكويت ليصدر مجلة “دنيا العروبة” عن “دار الرأي العام”، لكن الرحلة لم تطل لأكثر من ستة أشهر، عاد بعدها إلى بيروت ليلتحق بمجلة “الصياد” مديرًا للتحرير ومحررًا في مجلة “الحرية” حتى عام 1974، حيث وبدعم من الرئيس الليبي الراحل معمّر القذافي ستنطلق منارة “السفير” قوية وجريئة منذ عددها الأول ما دفعها لتواجه دعاوى متعددة لمنع نشرها منذ عددها الثاني، كما تعرّض مبنى الجريدة في 1 تشرين الثاني/ نوفمبر في عام 1980 لهجوم مسلح وأدى إلى تفجير مطابع الجريدة. كما استُهدف منزل طلال سلمان عددًا من المرات بالصواريخ والعبوات الناسفة، وذات مرة بسيارة مفخخة، لكن الاستهداف الذي ترك ندوبًا في جسد سلمان، محاولة الاغتيال التي طاولته في 14 تموز/ يوليو عام 1984 حيث كان يهم بالنزول من سيارته أمام منزله رفقة حارسه وسائق سيارته لتأتيهم الرصاصات على الجبهة والصدر، وقد وجّه سلمان أصابع الاتهام لرئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميّل، معتبرًا أن كل تلك المحاولات هي “لإسكات السفير بالرصاص”، حيث كانت السفير معادية لمعاهدة السلام مع إسرائيل المعروفة بـ”اتفاق 17 أيار/ مايو 1983″، وسمّت المعاهدة “اتفاق العار”. كما تعرّضت السفير للتوقف عن الصدور عددًا من المرات، وكان آخرها عام 1993 بقرار من رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري آنذاك، لنشرها “وثيقة تتضمن معلومات ترى الدولة وجوب أن تبقى مكتومة” كما جاء في قرار المنع. لكن طلال سلمان واصل كتابة افتتاحياته وإصدار السفير خلال أسبوع التوقف عن النشر تحت عنوان جريدة “بيروت المساء” للصحافي محسن إبراهيم، وذلك من 13 أيار/ مايو 1993 حتى 19 أيار/ مايو 1993 يوم انتهاء مدة التوقف عن النشر.
وإذا أردنا أن نعرف طلال سلمان يكفي أن نعود إلى المانشيت والعناوين والافتتاحيات التي كان يختارها للسفير في صفحتها الأولى. في 1 أيار/ مايو 1975 بعد هزيمة الولايات المتحدة الأميركية في فيتنام سنقرأ المانشيت “فيتنام حرة، المجد للثورة، المجد للفلاح المقاتل”، وسنقرأ “المجد لصمودك يا تل الزعتر” في 13 آب/ أغسطس 1976 وذلك إثر المجزرة التي طاولت مخيم “تل الزعتر” للاجئين الفلسطينيين في ضاحية بيروت الشرقية على يد الميليشيات المسيحية اللبنانية وبدعم من الجيش السوري. وفي 20 تشرين الثاني/ نوفمبر 1977 سنقرأ عن السادات “الساقط… عند المغتصب! صافحهم بحرارة، عانق غولدا مائير وحيّا شارون وارتبط مع بيغن بعلاقة شخصية”، وإثر اغتيال السادات في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 1981 يفتتح سلمان سفيرته “على الطريق” بمقال معنون “المجد لمصر العربية”. وفي 5 آب/ أغسطس 1982 مع الغزو الإسرائيلي للبنان نقرأ المانشيت “بيروت تحترق… ولا ترفع الأعلام البيضاء” مرفقة برسم ناجي العلي الشهير “صباح الخير يا بيروت”. وفي 31 آب/ أغسطس 1982 مع رحيل ياسر عرفات من لبنان سيكون المانشيت: “إلى اللقاء… ياسر عرفات”، وكتب في الصفحة الأولى “بكت بيروت أمس، قيادة وناسًا، وهي تودّع القائد الفلسطيني ياسر عرفات… وبقدر ما كان وفاء بيروت عظيمًا للرجل الذي قاد معركة الدفاع عنها. كان غضبها شديدًا على حالة التردي العربي التي رافقت الرحيل الفلسطيني..”. أما العنوان الذي قرأ فيه طلال سلمان مستقبل لبنان في 15 شباط/ فبراير 2005: “مستقبل لبنان في مهب الريح: رفيق الحريري شهيدًا!”، وكتب فيها ما لا نزال نعيشه حتى اليوم “الجريمة أخطر من اغتيال قائد سياسي باهر الحضور، محليًا وعربيًا وعالميًا، إنها محاولة لاغتيال وطن. المقتول فيها أكبر بما لا يقاس في قاتله… إن 14 شباط 2005 يوم حاسم في تاريخ لبنان. إنه من الأيام التي يبدو فيها التاريخ وكأنه أسرع في خطاه وأفلتت كوابحه نحو هاوية لا قعر فيها”. وفي 26 كانون الثاني/ يناير 2007 إثر اندلاع اشتباكات في شوارع بيروت كان المانشيت “لعن الله من أيقظها” قاصدًا فيها الفتنة بين اللبنانيين. وفي 15 كانون الأول/ ديسمبر 2008 سيكون المانشيت “ضربة حذاء مزدوجة كادت تصيب بوش في وجهه: هذه قبلة الوداع من العراقيين يا كلب!”.
طلال سلمان كان يحرّض على حب الوطن وعلى حب فلسطين، وعلى الثورة وعلى الحرية، وهو بهذا المعنى محرّضي الأول على الشغف بالصحافة وعلى النقد وعلى التفكير الطليعي، وقبل كل شيء على حب فلسطين. سفيرته تجاوزت نفسها في نقل الخبر أو تحليله، وهو تجاوز مهنته الصحافية. كتاباته كانت أجراسًا حقيقية فوق الماضي، الحاضر، والمستقبل، مثل اخضرار مستدام فوق أرض محروقة لا نهاية لها. وطلال سلمان لم يكتب يومًا كصحافي فقط بل كإنسان حزين يتألم على بلاده العربية. آلامه كثيرة بدءًا بفلسطين وبالحروب الأهلية اللبنانية المتكررة المتعددة الأشكال، وبتفكّك العالم العربي، وصولًا إلى انحدار وهج الصحافة، فمثلما شهد طلال سلمان على زمن كانت الصحافة فيه تشارك بالتغيير وبصنع الغد، وكانت السفير في طليعة هذه الصحف، فقد شهد على انطفاء وهجها، وحيث جاء إغلاق صحيفة السفير في عددها رقم 13551 بتاريخ 31-12-2016 ومما كتبتُ في ذلك العدد: “طلال سلمان… نحبكَ لأنك جئت بنا إلينا، فصار لصوتنا مكانٌ وزمانٌ أبعادهما النهضة بنا إلى المقاومة والعلمانية والوعي… كيف لنا أن نمضي بدون الوطن الذي أخذنا بيدنا فكان انتماؤنا الوحيد في هذا البلد المشوّه؟…”. لقد كانت السفير بيتنا الحقيقي ووطننا الحقيقي لأن طلال سلمان كان من الأشخاص النادرين والمعدودين الذين نشعر بالانتماء إليهم في هذا العالم. وبعد أربعة أيام، أي في 4 كانون الثاني/ يناير 2017 سيُصدر عددًا تذكاريًا خاصًا من السفير حمل الرقم 13552 جمع فيه أبرز المقالات والافتتاحيات على مدى 43 عامًا، والتي تؤرّخ لأبرز الأحداث لبنانيًا وعربيًا مرفقة بأبرز الصور.
وطلال سلمان كان راعي لجنة “كي لا ننسى صبرا وشاتيلا” التي أسّسها صديق فلسطين الصحافي الإيطالي ستيفانو كياريني في عام 2000، حيث يتم منذ ذلك العام إحياء ذكرى المذبحة التي تعرّضت لها مخيمات صبرا وشاتيلا عام 1982. وهو الذي طلب من ناجي العلي أن يكون حاضرًا في السفير برسوماته التي ستصير خالدة في وجداننا، وكتب عنه “ناجي العلي: الاسم الحركي لفلسطين… بالإبداع”..
وبعد أربعين عامًا على انطلاقة السفير سيكتب سلمان افتتاحيته بإحساسه المخزّن شعريًا بعنوان “حلم لأربعين سنة أفضل”، حلم لم يتحقق لكنه سيظل حلمًا جميلًا، ومما كتب في تلك الافتتاحية: “… سألت الفتاة من هو العدو؟ حاولت الأم تبسيط الإجابة: العدو هو غريب، جاء من بلاد بعيدة، وكان معه سلاح كثير، طائرات ودبابات، أخذ بالقوة أرض فلسطين. وجعل اسمها إسرائيل. هي فلسطين. تاريخها فلسطين. بالقوة جعلها إسرائيل…”. هذا هو طلال سلمان، هاجسه فلسطين والوحدة العربية، ولن ننسى افتتاحياته في “ملحق فلسطين” الذي تم إطلاقه مع جريدة السفير أسبوعيًا منذ العام 2010 وكان يترأس تحرير الملحق الكاتب صقر أبو فخر، وكان الملحق يهدف إلى “إقامة جسر بين الفلسطينيين في الداخل والخارج ودول الشتات، كما يهدف إلى استعادة فلسطين إلى اللغة السياسية اليومية، خارج سياق الاقتسام، ومن أجل عودة فلسطين كقضية عربية إلى المسرح السياسي، وامتدادًا لما بدأ به غسان كنفاني عام 1964 عندما أصدر ملحقًا بالاسم نفسه” وفق حديث لأبو فخر في ذلك الوقت. وكتب في الملحق أهم المفكرين والكتّاب الفلسطينيين. وقد كتب طلال سلمان في العدد الأول من الملحق يوم 14 أيار/ مايو 2010: “لفلسطين بذاتها، باسمها المطلق المستعصي على التقسيم والتفتيت، هذا الملحق… لأن زماننا يبدأ بفلسطين… تكون فلسطين فنكون بها. تحضر فلسطين فيحضر التاريخ جميعًا…”.
ولم تكون الافتتاحية السياسية “على الطريق” وحدها التي تقرأ الحدث، أو افتتاحيته في “ملحق فلسطين”، بل كانت هناك قراءة أخرى متأتية من سلمان الشاعر المرهف ننتظرها كل صباح يوم جمعة في “ملحق السفير الثقافي” بعنوان “هوامش”. هوامش كانت تهزّ ذائقتنا الأدبية وتشتغل على تخزين الحسّ النقدي لدينا، فكان يكتب أدبيًا وفكريًا ووجدانيًا عن الكتب والمعارض والموسيقى والأشخاص والأفكار والأحداث والقضايا الثقافية. ومن “هوامش” وجّه سلمان رسائله إلى سميح القاسم وأمل دنقل وصلاح ستيتية ووديع الصافي وغسان تويني وأدونيس و”عيوقة المختارة” وسعد كامل وشباب مصر في ثورتهم وكثيرين، ومن هوامش كتب شعرًا على لسان “نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب”، فكان سلمان نفسه تلك النسمة المرهفة والصلبة في الآن نفسه، نسمة جاءت إلى هذا العالم تاركة لنا أريجها “السفير” بين أشيائنا وفي قلوبنا، وستملأ فوهة فراغاتنا على الدوام بما يستحق الحياة.
بعد إغلاق جريدة السفير ظلّ طلال سلمان يكتب افتتاحيته “على الطريق” في موقع يحمل اسمه وبقي يكتب فيه حتى عام 2022 هو وأصدقاء “السفير” من لبنان والعالم العربي.
كتابتي هذه عن طلال سلمان قد لا تضيف شيئًا جديدًا، إنها فقط تحية للذي كتب عن أولئك الذين لا صوت لهم، أولئك الذين لم يكن صوتهم مسموعًا، وهو الذي كَتَب التاريخ كما ينبغي له أن يُكتب. وفي الوقت الذي لا يزال الاقتتال في بيروت مستمرًا على صياغة كتاب التاريخ للمدارس اللبنانية، لن تحتاج الأجيال الجديدة إلى انتظار ما لن يأتي لتفهم تاريخها، فـ “سفير” طلال سلمان هي نفسها كتاب التاريخ الذي لم يتفق على صياغته حكامنا، هو الإرث المستدام الذي تركه الراحل للبنان وفلسطين والعالم العربي.
موقع ضفة ثالثة