طلال سلمان رحلة كثيرة بنكهة الآتي والجذور الحَادَّة
من”كاتب” بدأ طلال سلمان حيث ارتسمت مشاغله الأولى عبر انهماكات أدبية وطموحاتها المستمرة في تصعيد. فحتى “الفتى الصحافيّ”، الخلوق والمشاكس رغمه، انطلق من “هموم” صحافي أديب عبر لغة متوحّدة بهاجس كتابة عربية انسانية متدفّقة ذات دمغة – توقيعة، رغم التأثّر الحالم بمثُل عُليا، وما يلزم من عدّة مَشحوذة اختبأت بين “الورقَتيْن” الرغيفين المرقوقَيْن لزوّادة الرحلة الطويلة: راوٍ لا يخلو جهاز الكتابة لديه من سخرية سوداء على مدار جدّية وتهَيًّبٍ مفرطَيْن باحترام الذات والآخر. وقصّاصً حكايا وعِبَر (انطيسياسية) ونوادر مستحدثة (حسَده على طرافتها سلام الراسي) هاجسٌ عمله “الصمتُ” و “المثاليُّ الساعي” (حتى في المقالة التعليق، والمتابعة المُختصر، والاستنطاق الحوار) بلغةٍ صحافية تشكيلية صحيحة ذات المزْج اللونيّ بعناصر اسلوبية من منطق / مناطق لغة صيّادة متأدّبة تسعى هي الأخرى معه لإتقان أهدافه (أهدافها) تصويباً دقيقاً عبر مسالك واضحة ونواحٍ مأهولة…
وأخطر ما ينتظرك كصديق هنا أنّ خلوقية طلال سلمان، عندما تجري الكتابة بك عنه، أصليةً تبقى.. تاركةً نصّك المتجه نحوه (أو المصوّب إليه) كرصاصات مديح أو نقد مرتدّة وهو ليس من ذلك أبداً لأنه محاولة نسْج من مختلفَيْن في الكتابة والرؤيا متّفقين في أشياء قريبة وبعيدة كثيرة:
– بداية تأسّس الصحافي – التقدمي الشجاع و “الخجول” – على أدب مقولات ومرويات أنْسنَّت على السنة الشعب بألسنة النخبة من الناس البسطاء ريفيين ومدنيين، سياسيين ومثقفين، غير ملوثين، من أولاد الحلال كما يصف أمثالهم مارون عبود من زمان….
– وبدايةً في ما بعد، تأسّست “السفير” تقدمية متحركة على انفتاح “كوسينيه” أدبيات وطنية وقومية إنسانية. وعلى قناعة خطواتها الأولى (خطواته) المتتالية سعت بصعوبة ودخلت تلقائياً في السباق، المصيري الخطير، على المنعطفات واثقة بمحركها الأساس فاتحة جناحيها (السياسي والثقافي) عبر المهاوي ومنزلقاتها للكتّاب والفنانين والشعراء ومن “يتبعهم”…
هكذا انطلقت المؤسّسة المشروع، كما اقتنَعَها وأقنعَها هو أولاً، من مفكرين وفنانين وكتّاب أحرار مختلفين ذوي تجربة أكثر منهم محترفي مهنة أو موظفي دائرة “يًضبضبون” فيها قمحهم بزؤانها من حواضر/محاضر دوائر ذات علاقة كما تفرض المهنة. من هنا نكهةً “السفير” الجريدة الصباحية بدءاً باسمها وصولاً، إلى جسمها المفصّل في النحافة. ونكهتها هنا تعني بدايةً بصمتها وتوقيعـها منذ وُجدت: طَعمٌ بل طعام صحيّ أو يناضل ليكون صحيّاً. خلطة شاطر من الطازج دائماً في الرُّوسيت وإبداعات السوق “الجديدة” …..ودائماً حسب القناعة ذاتها. كان لها طعمها بنكهة الجذور لا تُقبل إلا لاسِعةً حادّة (في السياسة خصوصاً وما يتبعها من ثقافة) لا تطعيماً بالمتوفر ولا طُعماً مصنّعاً بسماسرة وتجّار ورق وحروف: نكهة في المشروع الصحافي الكتابي المسؤول عبر عواصف التكنولوجيا الرقميّة المتجدّدة مع كل لحظة ابتكارية علمية. وفي العواصف، لها طعمها الحاذق في “أفواه” و “أعين” متذّوقها الأول المختبئة على مطلّات الكلمات غير المرصوفة ومفارقها. والسفير بنكهتها هكذا دمغة لازمة على طريقة جاك ريدا…. على الدوام خمرة جديدة للتذوّق لم يَقوَ عليها الرنّان القديم! هنا كانت ساحة النضال يومية معرفية لأربعين مضت بقسوة في مسالك عربية – محلية وعرة وعالمية متبدّلة على امتدادات مجتمع المشهد الاستهلاكي المتغيّر وما ينتج منهما من مفاجىء ومدهش من التكنولوجي الرقمي المذهل إلى الإيديولوجي الغيبي (الديني الإرهابي) المرعب حتى المَحْق.
ويظهر في رحلة الرغيفين المرقوقين دائماً طلال سلمان، من أوديتها الغاصّة بالثائرين (عبر أخطار المهرِّبين والمهرَّبين) إلى قممها المتوَّجة بأقواس القزح الربيعية، وكأنه يسرّ لروحه الصحافية المنتظرة في كابينة قاطرتها الأولى على امتداد المنزلقات والمهاوي: كوني مع من تسافرين وتشائين وتُبشّرين، وناضلي على طريق خطك الحديديّ، الحرّ من هنا والآخر الوطني هناك، حتى بدون التحرُّص أحياناً لحريتك الخاصة؛ ولكن إياك والمساس بذَرَّة من ذائقتك الحضارية تلك، الخلطة العجيبة من الأدبي والصحافي، الذاتي والجَماعي، الجذوري والحضاري حتى قيام الساعة…العربية!
والسفير رغم كل هذا جماعة في مشروع يومي مسافر في وإلى كل مكان متوفّر وكل قضية ومشروع آخر!
وأخيراً، طلال سلمان: كتابة شاطرة، عاملة ومناضلة، لا تشبع معرفة انتساب إلى الجماعة العربية الإنسانية في الراهن، بدءاً بجذور خضراء في العصر وانتهاء بفروع في الأرجاء العربية: كتابة “كثيرة” قرأناها أحياناً حتى آخر كلمات المقالة والمقول، بعكس ما كانت تتصرّف بهما قراءاتنا البريئة أو الماكرة مع بعض الآخرين، بخجلٍ أو بدونه، مكتفيةً بالسطور الثلاثة الأولى بعد أخذ حبّة أو “كمشة” مهدئات (كما يقول هو بلغته). وهكذا في الخدمة الإلزامية لأربعين في الرحلة الأخطر والأشقى، في أول السباق للطليعة حتى الآن؛ رغمه ورغمنا ورغم هذه الأوطان (الربيعية خصوصاً) التي تطبع بملايين الأطنان وتقرأ بالملّيغرمات عبر الطريق الوعرة الطويلة لكفاحاتها على امتدادات ملاحمها البائسة.
الياس لحود
الطريق، 192013